لربما من قبيل الصدفة أن يرحل عنا في الأسبوع نفسه شخصان مهمّان لعبا دورًا محوريًا في تاريخ لبنان الحديث، وطبعت تجربتهما المختلفة، والمثيرة للجدل أحيانًا، حياة العديد من أصدقائهما وأقرانهما ومريديهما، وإلى درجة معيّنة خصومهما السياسيين. سليم الحص ابن زقاق البلاط السني المحافظ و"الآدمي" (بلهجة بيروتية)، وجورج فريحة ابن رأس المتن الأرثوذكسي الذي أعطى بلدته المتبناة، أي الأشرفية فرعًا من الجامعة الأميركية في بيروت.
رحل سليم الحص، رئيس الحكومة الذي خرج من رحم الجامعة الأميركية في بيروت، ومن جثة الشهابية السياسية، في عام 1976 ليصبح رئيس الحكومة الأول في عهد الرئيس إلياس سركيس. الأكاديمي الذي تتلمذ على يد الشيخ سعيد حمادة، أحد رواد القطاع المصرفي المالي اللبناني أو ما تبقّى منه، والذي أرسل سليم الحص اليتيم أباً وأماً لمتابعة الدكتوراه في جامعة إنديانا، ليعود إلى لبنان ليُدرّس في الكلية، قبل أن يدخل معترك السياسة اللبنانية من باب التكنوقراط كرئيس حكومة في عهد الرئيس الشهابي إلياس سركيس، الذي عيّنه في أول حكوماته ليكون الذراع التنفيذية لإعادة بناء لبنان بعد حرب السنتين، وفي ظل الاحتلال السوري المقنع تحت غطاء قوات الردع العربية.
مثّل سليم الحص آنذاك السياسي السني المقطوع من شجرة الزعامة السياسية، فلم يكن هو ابن الصلح أو ابن سلام أو كرامي، ولا حتى العويني، بل كان الاقتصادي المكافح الذي سينكب على بناء الاقتصاد، ويمتنع عن التدخل في السياسة اللبنانية، والتي كانت حصرًا من اختصاص الرئيس الماروني، ولاحقًا من اختصاص نظام الوصاية السورية، فأصبح الحص في نسخته الشهابية المعدلة الخيار الطبيعي لأيّ جهة تريد أن تنتزع السياسة من عمل الحكم، وبطريقة تُركّز على أن المعضلة اللبنانية ومشكلات الحكم تنبع من سوء إدارة موارد الدولة، ومن محاولة تحويل عمل رئيس الحكومة السني، حتى بعد إقرار اتفاق الطائف، إلى عمل بيروقراطيّ يقوم به حاجب برتبة وزير.
"دروشة" الرئيس الحص ونظافة كفّه وعدم انتمائه للبيوت السياسية التقليدية قرّبته من الشارع السنيّ ومن المواطن اللبناني العادي، الذي سئم أمراء الحرب والزعماء التقليديين. ولكن ما لبث أن أصبح الحصّ أقلّ بريقًا وجاذبية أمام ضخامة رجل الأعمال رفيق الحريري، الذي دخل الساحة اللبنانية كـ"البلدوزر"، وقزّم الحص، وأحاله على التقاعد السياسي ولو لفترة؛ الأمر الذي لم يسامحه الحص عليه أبداً، ولا حتى بعد اغتيال الحريري من قبل حزب الله ونظام بشار الأسد. للمفارقة هنا، فإن النموذج الحريري الاقتصادي يملك في حمضه النووي فلسفة الرئيس الحص، الذي ارتضى أن يركّز رئيس الحكومة السني على الاقتصاد، بل خضع لذلك، ليبني نموذج هونغ كونغ، في حين يترك نموذج هانوي المقاومة لنظام الوصاية ووكلائه اللبنانيين.
عودة الحص إلى الحكم في سنة 1998 في عهد إميل لحود أنهت الإرث السياسي للحص، فتحول الأكاديمي النزيه الذي يرفض استغلال منصبه إلى واجهة للنظام الأمني اللبناني - السوري، وأصبحت الحكومة تنفذ أوامر ضباط الحرس الجمهوري والمخابرات، وتم قمع الحريات وحرية الصحافة، وترك الرئيس الحص ليخوض حربًا مفتوحة ضد الحريرية السياسية ورموزها، متسلّحًا بأشخاص يشبهون الحص في تكوينه البيروقراطي والحاقد على الحريري والنموذج الليبرالي. ففي عهد الحص تمّ منع نشرات الأخبار وحصرها بتلفزيون لبنان ليُصبح نموذجًا أشبه بنشرة التلفزيون السوري.
لعلّ السقطة الكبرى للحص في سنواته الأخيرة قبل أن تمنعه الشيخوخة من الكلام والنشاط السياسي هي أنه لم يغامر للقتال من أجل حماية الحرية والديمقراطية كما كان يدّعي، بل راهن - على العكس تمامًا - ودافع عن رموز سخرت نفسها في سبيل القمع والقتل واستعباد البشر. فالرئيس الحص صاحب الكفّ النظيفة قام، وبعد شهرين من اغتيال رفيق الحريري، بزيارة دمشق، والتقى بشار الأسد، بينما كان مئات آلاف المتظاهرين في بيروت يتّهمون الأسد ونظامه باغتيال الحريري، وكرّر زياراته عدّة مرّات حتى بعد بدء الثورة السورية وقيام نظام الأسد وحزب الله بإبادة الشعب السوري.
التقيت الرئيس الحص عام 2005 ضمن مشروع التاريخ الشفهيّ للجامعة الأميركية، وقمت بتدوين رحلته مع الجامعة. وكنت شخصيًا قد ترعرعت على محبّته، بسبب علاقة والدي الشخصية، وعلاقة أساتذتي المؤرخ كمال الصليبي ومعلّمي عبد الرحيم أبو حسين معه. ولكن ذلك لم يمنعني من الاعتراض على ما مثّله الحص كغطاء لمجموعة من الأشرار الذين احتموا بشخصه ونزاهته. فللمفارقة، العديد من الذين رثوا الحص بعد وفاته -وهنا لا أعني الصادقين منهم- هم من المجرمين المسؤولين عن تحويل لبنان إلى لعنة ونقمة على أبنائه. ولربما الأهمّ أنه في حين ادّعى الحص بأنه غير طائفي، فقد فشل في عدّة امتحانات ومواقف في برهنة ذلك، بل خرج علينا بمواقف مذهبيّة سخيفة أحيانًا.
في المقلب الآخر، جورج فريحة أو "عمو جورج" كما يلقبّه محبّوه، لا سيما أولاد رفاقه في العمل السياسيّ، ومنهم صديق عزيز عرفني على فريحة خلال بحثي في "حرب الجبل"، التقيته في مكتبه في نزلة أوتيل ديو، وكان منكبًا على تأليف كتابه "مع بشير: ذكريات ومذكرات"، حيث كان كعادته صريحًا إلى درجة قاتلة، وسرد عليّ دوره إلى جانب الرئيس المنتخب بشير الجميل ودوره في إنشاء اللجان الشعبية مع بداية الحرب سنة 1975، وحتى فصّل لي لقاء نهاريا الشهير بين بشير ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن، وأشار لي إلى محضر الجلسة الذي دوّنه بيده، والذي كان ضمن ملفات عديدة موجودة في زاوية الغرفة.
فريحة أستاذ مادة علم الطفيليات، الذي لم يدخل كطفيليّ إلى النشاط العام، تزوّج الشيخة فيفيان، كريمة السياسي المخضرم موريس الجميل التقنيّ والمشرّع، الذي توفّي تحت قبة البرلمان. فريحة، على عكس زميله في الجامعة سليم الحص، لم يحقد على السياسة، بل قفز في عملها التكنوقراطي من دون أن يعرّي السياسة من السيادة والقيادة السياسية الواضحة، فاعتبر أنه بوجود قائد سياسيّ واضح، ولو كان عنيفاً، مثل بشير الجميل، باستطاعته إعادة تشكيل الدولة اللبنانية واستعادة سيادتها الكاملة، وفي نفس الوقت محاربة الفساد وتجّار الهيكل المنتمين إلى التيارات السياسية كافة. فريحة لم يخجل من تعامل فريقه مع إسرائيل، ولم يعتذر عن ذلك، بل صرخ في كلّ مناسبة بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن خطوة فريقه كانت من أجل حماية لبنان من دون مواربة أو تزلّف، و لم ينكر خطايا الشعب اللبناني المتمثلة بالطائفية والمذهبية، بل - على العكس تماماً - اعتبرها نعمة في حال تمّ تسخيرها لحماية لبنان ونظامه التعددي.
لعلّ أحدّ أهمّ إنجازات فريحة هو حمايته للجامعة الأميركية في بيروت خلال سنوات الحرب القاسية، لاسيما عندما أصبح انتقال الطلاب عبر الخط الأخضر عملًا انتحاريًا، فقام بشراسته المعهودة بالاشتباك والإلحاح على إدارة الجامعة التي رغبت في إبقاء حرمها الجامعي موحّدًا. في النهاية، استطاع فريحة أن يؤسّس باسم الجامعة الأميركية برنامج "Off-Campus Program"، الذي أخذ من منطقة اللعازرية في الأشرفية مقرًا له لمدة ثماني سنوات حتى انتهاء الحرب، وأتاح الفرصة لأكثر من 3400 طالب لتحصيل علومهم في جميع الاختصاصات، من دون تعريض حياتهم لخطر المعابر والميليشيات المتحكّمة بها.
الراحلان سليم الحص وجورج فريحة ينتميان إلى مدرستين مختلفتين بالكامل.
الأول "آدمي" بلا شك، ولكن كما يقول المثل "الآدمي أزوّجه لابنتي ولكن لا يصلح للسياسة". أما الثاني، فصادق ومقدام إلى درجة الفظاظة أحيانًا، ولا يخجل من هويته المذهبية والطائفية ولو جرحت شركاءه في الوطن. الحص وفريحة خطّا فصولاً في كتاب تاريخ لبنان، ولكن يبقى الأهمّ على الجيل الجديد من الناشطين والساسة أن يختاروا بين تلك التجارب، أو أن يجمعوا بين النزاهة والواقعية السياسية والشجاعة التي تبقى الطريق الوحيد لبناء مستقبل لبلد مرضه الأبرز العيش في الماضي.