فجأة سقطت الإيديولوجيات والمذهبيات والعداوات والاستعلاءات والشماتات. لا أقول إنها سقطت إلى غير رجعة، فالتجارب السابقة لا تسمح بهذا التفاؤل الإنساني العظيم، في بلاد الحروب الموسميّة.
لكنها سقطت فجأة مع سقوط الصواريخ الإسرائيلية على رؤوس أهل الضاحية والجنوب والبقاع. العقول المقفلة على الجانبين فتحتها أبواب بيوت اللبنانيين المشرعة لاستقبال النازحين. فتح الأبواب بين اللبنانيين هو ما يفتح عقولهم، وإغلاقها هو ما يغلقها.
سيارات النازحين توجّهت وتتوجّه إلى بيروت، من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وعبر بيروت إلى المناطق اللبنانية الأكثر أماناً.
كلّ الطرق تؤدي إلى بيروت.
لا معنى لضاحية جنوبية أو لضاحية شمالية لبيروت من دون بيروت. لا معنى، جغرافياً كان أو سياسياً. فليعد الجميع إلى بيروت، إلى عاصمة لبنان، إلى لبنان؛ ولتتبع السياسة نفس الطريق التي سلكها النازحون تفتيشاً عن الأمان.
ربما كان مفيداً، ولو متأخّراً جداً في توقيته، أن يعدّل "حزب الله" في بياناته، فبدل أن يردّد أنه يخوض "حرب إسناد غزة" كما في السابق، أن يقول بعد الهجمة الإسرائيلية الأخيرة أنه "يدافع عن لبنان وشعبه". كلّ الكلام عن وقف أو عدم وقف "حرب إسناد غزة" من قبل "حزب الله"، وعن أنها المشكلة الأساسية اليوم بينه وبين إسرائيل، والتي تصاعدت بسببها الحرب، أصبح كلاماً فارغاً، فالقضية تحوّلت إلى كيفية إسناد لبنان، بعد أن صار إسناد غزة من المستحيلات.
ربما كان مفيداً أيضاً أن يصرّح الرئيس بري بأن لبنان لا يريد الحرب بل يريد تطبيق القرار ١٧٠١، ولو أنه تأخّر كثيراً، ولم يفتح أبواب المجلس النيابي عندما طالبه نواب بمناقشة الحرب الدائرة في الجنوب، والتي شاركت فيها حركة "أمل". وهو كان يعلم، من دون شك، أنّه بحسب استطلاعات الرأي نحو 90 في المئة من اللبنانيين لم يكونوا مع الحرب التي انخرط فيها "حزب الله" منذ سنة تقريباً.
فليعد الجميع إلى بيروت، كما فعلوا في حرب تموز ٢٠٠٦، وتوصّلوا إلى القرار ١٧٠١، فلعلّهم ينجحون اليوم في تطبيقه، أو في الوصول إلى قرار جديد، لن يكون للأسف، نسبة إلى ميزان القوى، إلا أكثر مراعاة لمصالح إسرائيل.
فليعد الجميع إلى بيروت، إلى مؤسّسات لبنان الدستورية، ولتكن الأولوية الآن لاستخدام كلّ الوسائل الدبلوماسية لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، بالتوازي مع تكثيف أشكال التضامن الوطني لتقديم الإسعافات للجرحى والمأوى والمساعدات للنازحين.
لكن ماذا عن المحاسبة السياسية أمام هذه الكارثة التي حلّت على لبنان واللبنانيين؟
يحجم كثيرون اليوم عن الكلام السياسي أو عن توجيه الانتقاداتإلى القوى التي تسبّبت بالوصول إلى هذه الكارثة. والحجة هنا أنّ المطلوب الآن مداواة الجراح وليس افتعال توترات سياسية. لكن هل يمكنك أن تتعاطف مع المظلوم من دون أن تغضب في اللحظة نفسها على الظالم؟
ليس هذا من طبيعة البشر، الذين -وهم يعانون- تراهم يشتمون في الوقت نفسه الذين تسبّبوا لهم بهذه المعاناة. بعضهم يشتم بصوت عالٍ، والبعض الآخر يحبس الغضب في قلبه، خوفاً من انتقام الظالم أو مناصريه. وهناك طبعاً فئة من البشر ترى أن وراء مصائبها إرادة أو حكمة إلهية تخاف أن تسائلها، وتفضّل أن تخضع لمشيئتها، أو لمشيئة القائد الذي يدّعي تمثيلها.
لا نستطيع أن نحاسب إجرام إسرائيل إلا أمام المحافل الدولية، التي يعطّلها الفيتو الأميركي. لكننا قد نستطيع أن نقلّل من عنفها وآثاره، من خلال استراتيجية دفاعية تقرّها الدولة، يكون عمادها الجيش اللبناني، وتفادي هذا العنف من خلال سياسات حكيمة. والاستراتيجية الدفاعية والسياسات الحكيمة هي ما يجب أن يكون موضوع نقاش في الأطر السياسية والمدنية، التي عليها أيضاً أن تحدّد المسؤوليات الداخلية عمّا يحصل اليوم من حرب على لبنان.
لا بدّ من مساءلة سياسيّة أمام هول الكارثة وحجم المعاناة، حتى ولو أجّلت إلى حين. مساءلة سياسية باسم الضحايا والجرحى والآثار المعنوية والنفسية والاقتصادية والمادية للحرب. ولتكن هذه المحاسبة بالطرق الديمقراطية في إطار من الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
لكننا أمام هول الكارثة، التي حلّت على لبنان واللبنانيين، لا يُمكن للمحاسبة هذه أن تطال فقط الأشخاص والقوى من حيث مواقعها وأفعالها، بل عليها أن تبحث في العمق عن مسؤولية النظام السياسي القائم في طريقة اشتغاله الفعلية، لا على الورق: فكيف يسمح هذا النظام القائم لطرف مسلّح باتخاذ قرار الحرب والسلم من خارج الأطر الدستورية؟ وكيف يسمح هذا النظام القائم بتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية وما استتبع ذلك من شلل في الحكومة والمجلس النيابي؟ وكيف يسمح هذا النظام القائم باستمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمالي والمعيشي من دون معالجات عمليّة، بعد أن سمح بعدم محاسبة الذين سرقوا أموال المودعين؟
معاناة اللبنانيين الكبيرة لم تعد تسمح بتجاهل طرح هذه الأسئلة الموجعة والوجودية، وبالتفتيش تالياً عن أجوبة لعلّها تساهم في بناء مستقبل أكثر أماناً وقدرة على تأمين معيشة لائقة للّبنانيين.
نعم، معاناة اللبنانيين لم تعد تتقبّل مثلاً التسليم بما جاء في افتتاحية جريدة "الأخبار" منذ أيام قليلة، وهي الناطقة باسم "حزب الله"، من أنه في "جوهر المقاومة وموقعها في الصراع، يتقدّم الالتزام على كلّ اعتبار آخر، سياسياً أو إنسانياً أو أخلاقياً"، كما أنه "يُفترض بجمهور وقواعد المقاومة وداعميها أن يحسموا أمر ثقتهم بقيادتها، وهي قيادة مُجرّبة، وقد خبرناها خلال أربعة عقود منها الحروب الكبرى، فنجحت في صوابية الخيارات والبرامج".
لا، لا شيء يتقدّم على الاعتبارات "السياسية والإنسانية والأخلاقية" في اتخاذ القرارات، ولا ثقة عمياء بأيّ قيادة، مهما كان المصدر الذي تستمدّ منه شرعيتها؛ فجميع البشر معرّضون للخطأ، ولا شكّ في أن قيادة "حزب الله" أخطأت اليوم خطأ استراتيجياً مميتاً بحقها، وبحق شعبها وبلادها.