إن هذا العالم لا يتّسع موطناً لأحلامنا
وهذه الأرض لا تكفي مكاناً لتسرح فيها
لأنّ الأحلام التي تنام في أعشاش الطيور تستيقظ حرّة.
وبين أوهام الأرض وأحلام السماء تقف الإنسانية
وقفة الجبار بوجه العاصفة الهوجاء.
فلا الأوهام تشتّتها، ولا الأحلام تأسرها ولا العاصفة تهزّها.
فما لغزك أيّتها الأرض؟
أسقتك السماء وأنبتت حقولك، ملأت خزائنك، أغنت أهراءتك،
أفاضت ينابيعك وبركك، أعادت النضارة إلى وجهك المتشقّق
وغسلت رمادك وأعطتك بركات فيّاضة لزروعك..
فلماذا تحاربين أحلام السماء؟
إنه اللغز المحيّر بين الآتي من النور والذاهب إلى الظلام.
وبلادي لا تختلف كثيراً عن هذه الأرض..
فهي لم تقوَ رغم كلّ عاهاتها وعللها ومآسيها
على قتل أحلامنا، ولم يقو بعض الناقصون فيها على رميها
بسهام حسدهم، فهي سترتفع وتنمو وتشتدّ
ولم يقو الحاقدون على إبادتها، فهي سترتفع وتنمو وتعلو وتشتدّ
ولم يقو الشامتون من التقليل من شأنها، لأنّ أحلامنا
سترتفع وتنمو وتعلو وتشتدّ إلى ما لا نهاية.
فالأحلام التي تولد بأجنحة، لا أحد يقدر على مسّ حقيقتها.
لكنّي بكيت وحزنت على هؤلاء جميعاً.
حزنت لأجل بلادي، ولأجل بعض الناقصين فيها، ولأجل
الحاقدين ولأجل الشامتين.. وأشفقت عليهم أكثر.
ومن وراء حزني عليهم، رأيت العدل الخفيّ يرثي حالهم
ويندب جهلهم ويسخر منهم. ورأيت أحلامي ترفرف
فوق رؤوسهم مهلّلة وهي تبتسم ابتسامة الانتصار!
أنا غريبة عن بلادي. غريبة كمن يقيم عرساً في مدينة الأموات.
ومن الشقاء أن لا أنتمي إلى وطن، ومن النعيم أن أنتمي إلى العالم.
وبين النعيم والشقاء خيط رفيع لا ينقطع يدعى الأمل.
هو اللحظة الحاسمة بين ظلم الحياة وعدل السماء.
هو الحدّ الفاصل بين الحريّة والعبوديّة.
هو النقطة الأخيرة في سطر يبدأ بالتنافر وينتهي بالانسجام.
ومن تجاسر بحريته صار عبداً لها
ومن تواضع بعبوديته كاد يتحرّر منها.
العالم كلّه وطني وأعمالنا كترنيمة صلاة حارة
تنشدها الصخور البحرية التي تتلاطم عليها الأمواج
فتسمعها الغابات وتتمتمها الجبال وتنقلها الرياح
إلى كلّ المسامع. فعبثاً يحاول اللائمون.
وكلّ الأتعاب والجهود التي لم نكافأ عليها، ستبقى
لتنشر مجدها في الآفاق..
وأعمالهم، التي لم يتعبوا فيها وكرّموهم عليها، ستخلد عارهم
وسترحل كما يمحو الزبد آثار الرمال على الشواطئ.
وما نجاهد لأجله سراً سيعلنه الغد الآتي
وما سنقوله ستردّده الحناجر.