لطالما كانت هذه الحقبة هي ما أراهن عليه من زمني للخوض في تجارب أتشوّق إليها!
ما بين الـ١٨ والـ٢٥، سبعُ سنواتٍ لن تتكرّر.
كنت قد خصّصت فترة العمر الانتقالية هذه للمغامرة والخوض في معترك الحياة. إنَّها مرحلة تكوين الذّات، وفي خلالها سأبني شخصيّتي بالتجارب، بالفشل قبل النّجاح؛ سأخطئ، سأصيب، سأكرّر خطئي وأتعلم، سأتعرّف نفسي، وأمضي بذلك حياتي.
بحماس هائل، وكأيّ شاب، عددت الأيام، الأشهرَ والسنين، لأبلغ عامي الـ١٨ (معروف بسن الرشد) لتُتيح لي القوانين حقوق الشخص الراشد، فأتعرف كلّ ما في الحياة، وأخوض تجاربها من أبوابها كافّةً، غير آبه بشيء؛ ولأتعرّف هذا الوطن الجميل أكثر، فأجول في شوارع بيروت. لطالما هويتها - وما زلت -!
أريد أن أسهر لياليها، وأعاشر أهلها، ليعيش بي هذا الوطن كما أعيش أنا به.
استقبلت عامي الـ١٨؛ أخيراً استقبلته… لم تمض أيّام حتى انتفض شعبٌ كان قد تنفّس الظلم لعقود، وعانى من الفساد المستشري ما عاناه. أحزنتني يومها القلوب المقهورة، والوجوه الذابلة التي جالت الشوارع مطالبة بالعدالة ومنادية بالحياة الكريمة، أو أقرب ما يكون إليها. حينها عرفت أكثر عن خبايا ما يحدث في الوطن، وسيطر على أيّامي القلق من الأحداث المقبلة.
كانت هذه الموجة الأولى، التي سبقت موجة جائحة كورونا، التي كتمت أنفاسنا، وحاصرتنا من كلّ حدب وصوب. لن أتحدّث عنها كثيراً، فلطالما أربكت العالم بأسره...
لم تمضِ أشهر حتى حدث ما لم يكن بالحسبان. فاجعة هزّت الوطن وهزّت أرواحنا معه، ونكبةٌ جعلتنا نكبر سنوات خلال ساعات...إنّه ٤ آب ٢٠٢٠، ذلك اليوم الأسود الذي أبى أن يخرج من ذاكرة أيّ لبناني، وذلك الحادث المتمثّل بانفجار مرفأ بيروت الذي أدمى قلوبنا، وذلك الحادث غير العابر، الذي قتل منّا الكثير، وقتل فينا ما قتل...
حتى اللحظة الراهنة، صحّة وطني في تراجع متسارع، اقتصاده تعيس، ديونه متراكمة، أمنه متفلّت، ألمه مستمر، والعناء متواصل من الفقر، الجوع، البطالة، الموت، الظلم، الحرمان، والهجرة...
كل ذلك أنهك الوطن، وأنهكنا معه. بات الوطن عجوزاً هرماً، وهرمت أرواحنا معه... غادَرَنا وغادرَ هذا الوطن الكثير من الأحباب هرباً من هذه الحرب الباردة بموعد ذهاب من دون إياب، لاستحالة حصوله إذا بقي ما تبقّى من وطني على حاله...
هذه هي الحقبة الجميلة قد شارفت على الانتهاء، وبات ختامها قاب قوسين أو أدنى...خسرتها فعلاً، وبدلاً من أن يمنحني إيّاها وطني، سأقدّمها أنا له تضحية آملاً في وداعها شفاءَه من مرض عضالٍ تحكّم به، وآملاً في خلاصه في القريب العاجل.
بالرغم من هذا السواد الحالك، يقبع في داخلي أمل ما تلاشى حتى عاد أمتنَ، ويأبى مغادرة فكري، ويمنعني من الاستسلام والمغادرة. راودتني فكرة السّفر خارج البلد، فخشيت أن أغادر بجسدي من دون قلبي؛ لذلك اتخذت قرار البقاء في وطن أصعب ما تقرّره فيه البقاء! نويت التمسك بأيّ قشّة تولّد بي أملاً فيه. لست أدري إلى متى يمكنني الصمود، لكن كلّ ما أريده هو أن أجاهد في صمودي...
بعيداً عمّن خان لبنان وأوصله إلى ما هو عليه، فإنّ لي رجاء ولا رجاء غيره؛ أعيدوا للبنان الحياة... لينعم، وننعم به مع مَن نُحب؛ فلعلهم يعودون، أو يعود بعضهم، "فوالله" وإنّي أقولها جازماً.. ما أغنت البلدان عن وطنٍ يوماً...!