٤آب٢٠٢٠: الوجع الأكبر، والمصاب الدّامي، و طعن حلميَ الأوّل..
حرّكتُ يديّ ببطءٍ لأختار ورقةً أخرى، كانت إحدى الرّسائل التي كتبتُها لي، إلى المستقبل:" عزيزتي الحالمة ياسمين، في يومٍ ما، عندما تكبرين، ستفخرين بنفسِكِ كثيرًا، تعلمينَ أنَّ الغربة مُرّة، تدركينَ أنّها أخذت منكِ موطنكِ، و لكنّكِ ستعاودينَ الوقوف، لكِ أمٌّ هنا لا تتوقف عن الدّعاء كل يومٍ في صلواتها الخمس، و هناكَ من يحتاجون سخاءكِ الإنسانيِّ، كوني قويّة، واجهي الغربة، ستكونينَ يومًا ما أردتِ، طالما أنّكِ تؤمنين بذلك، ستكونينَ فخرًا للبنان الّذي تحلمين به، ولا تنسي أنّكِ تستطيعين تغيير العالم، و تداوين مرضى السّرطان..
تذكرتُ التّاريخ المشؤوم فور رؤية هذه الرسالة.
٢٣ نيسان ٢٠٢٢: زورق الموت المفجع.
تساءلتُ في نفسي، أتراه كان يشعر بأن الموت سيلاقيه!؟ بماذا كان يحسّ حين كتبها؟! أكانت رسالة انتحار!؟
ربّما كان يريد أن يسافر لأنّ لبنان لم يعد فيه أمل.
قَتلَهُ السّفر، قَتلَهُ البحر، قَتلَهُ لبنان.
لقد أصبحَ البحرُ المقبرة الّتي تدفن من يريد أن يحيا.
كنت أتمنى أن آتي إليه ليتّسع الحلم لا ليضيق، لأرى أصابع الشّمس كيف تبتلّ في الماء، كنت أريد أن أصبح شاعرةً تخطّ الجمال حين تنظر إليه.
لكنّ الأحلام حين لا تتحقّق تصبح كوابيسَ مرعبة.
كأنّني كنتُ الوحيدة الحزينة في هذا الوطن، حتّى فجأةً غفت كل الأحزان فيَّ حين سمعت قهقهات الأطفال مولّدةً في روحي أملًا غضًّا.
كان طفلٌ ينادي:" أمّاه، رسمت علمًا على الشّاطئ، أَجميلٌ ما رسمت؟"
ضحكت الأم: "رائع يا بنيّ، أنت حقًّا مبدع. "
ودار حديثٌ بينهما، ارتأت الأمّ أن تنكز طينة ابنها لتعرف مدى حبّه لوطنه، ثمّ أردفت باسمةً: "ماذا ستصبح في المستقبل يا وَلدي؟"
صمتَ الطّفل حالمًا ثم قال ببراءة:"عندما أكبر، سأصبح جنديًّا يا أمّي، أدافع عن وطني، سأعيد مجد لبنان القديم، وأقاتل في سبيل حماية أرزه الأخضر وتبقى رايتنا ترفرف أبد الدّهر، أعدكِ يا أمّي، أعدكِ."
كنتُ أرى حماسة الأمِّ في عينيها تكبر بعد كلّ كلمةٍ تخرج من فم هذا الطّفل المليء بأحلام الغد، ابتسمتُ ثم تابعت سيري..
هناك، قدّم شابٌّ خاتمًا لعروسه معترفًا أمام حشدٍ من النّاس بحبّه الكبير لها.
لكنّ الّذي أثار فضولي، دهشتي حين صفّق الجمهور متهافتًا: "مبارك أحمد، مبارك كريستينا".
أذهلني هذا الحبّ الصادق الذي تحدّى كل مبادئ المجتمع البدائيِّ.
فالحبّ لا يعرف الأديان، هو بلا قيودٍ، و فوق كلّ شيءٍ، إنَّ الوطن الذي يحيا بالحبِّ، سيدوم ولن ينطفئ نوره.
كنت يا وطني عالمي الوحيد، و هناك مكانٌ واحدٌ يلجأ إليه الإنسان بعد يومٍ متعب، ولا يمكنه مهما تعثّرت به الأقدارُ أن يعتاد مكانًا غريبًا عنه..
نحتاج لمن يبعث ببيروتَ حيّة بعد غفوتها، بيروتُ الحلوة تنتظر من يرقص حين تلبس عروسة الشرق فستانها الذي أخفته خزانة الرّابع من آب في دهاليزها، وأن يقوم القبطان بإطلاق أشرعة سفينته الغنيّة بالموارد، بالصّادرات، لا بالموتى!!
أن تُطرب العصافير على أصوات التّلاميذ الّذين يردّدون كلّ صباحٍ، النشيد الوطنيّ اللّبنانيّ:
"كلّنا للوطن للعلى للعلم".
وأن تعلوَ أغاني فيروز والصّافي، وقصائد جبران و إيليا في حبّهم للبنان العريق..
آنَ أن نكتبَ نهايةً لكلّ هذا الوجع.
البارحة، حيث كنتُ في مكاني المعتاد، جالسة على الكرسيّ، أراقب انتهاء آخر خيط للشّمس، أغمضت عينيّ قليلًا، موجهةً رأسي نحو السّماء، فإذ بهاتفي يرنّ، أدرتُ رأسي نحوه لأجيب.
كان "الحلم" يتّصل بي:
"_مرحبًا، أأنتِ ياسمين؟
_مرحبًا، نعم"
وبعد أن أخذ المتّصل عدّة معلومات عنّي، قال لي:
"_مبارك لكِ، لقد تمّ قبولك في إنشاء مشروع تبرّع لمرضى السّرطان، بإشراف من جمعيّتنا، سنتواصل معك لاحقًا".
لم تَسع فرحتي المكان، ذهبت إلى البحر مجدّدًا، أريد أن أحتفي بسماعي للخبر، قصدته و أنا لديّ من الكلمات ما يتّسع لقصيدة طويلة، قابلت شخصًا كنت مدركة أنّني أعرفه كما أعرفُني، كان أخي زيد.
لم أستطع أن أتفوّه بكلمةٍ واحدة، بقيتُ مذهولة أمام المشهد.
ما أخبرني به حينها لم يكن عاديًا أبدًا، لقد قال لي: "أنا والحلم توأم، أكملي لكي تحييني، لا تدعيني أموت مرّة أخرى، لا تقتلي الحلم، لا تقتليني، أرجوك".
.