جاء الدجى في غير وقته، والشمس في أوج شروقها، الربيع تغير حاله، فأعطى الأيام خريفها، البحر قد سُلِب بريقه، و المرجان جفّت شعابها، الرياح باتت أعاصير، يعجّ بالسموم هواؤها، بالله ما هو المصير؟ وإلى أين الحياة ذاهبة؟
الضياء معدوم، في محكمة متقاضية، والحال غير مفهوم، في أيام مضنية، مهما زادت العلوم، في هذه الدنيا الفانية، يبقى الشرّ ملغومًا، وكأنه النتيجة النهائية، الظنون لن تشفع للحقيقة، و عقارب الساعة تبتلع كلّ دقيقة، وكأنها مجاعة نأكل لحم بعضنا، وما طاب تمزيقه، وفي النهاية نقول طوبى لنا، نحن خير ناس بين الخليقة،
ما هي النهاية؟ وكيف بدأنا؟ والضياع مصيرنا، حتى وإن عدنا، ومن يرشدنا، نُدمَى ومن يسعفنا، نُدفَن ومن يشيعنا، نُدثَر ومن يذكرنا، كم هو مرير حالنا، ومجدنا فارقنا، وبات الفراغ يتملّكنا، ورفعنا من التفاهة حتى صار شأنها أعلى من شأننا، فيا حسرة علينا وعلى مستقبلنا.
الظلام سلب من المدينة رونقها، فالوجم هو حالنا، وكيف سيكون حسابنا، آلاف من الخيبات والسيّئات تصارع حسنة، الأبجدية تقف مكبلة أمام المقصلة، فأيّ تبرير يشفع للمعصية، بعد ألف تحذير لن تضبط الناصية، فهنا تسقط كلّ محافل التبرئة، فالشرّ تلبس الذات ولا مجال للتجزئة، فجميع الأجزاء شاهدة على جرائم فعلناها في حقّ ذواتنا، جعلت أيامنا سوداء قاتمة، ونبكي على أموتنا ولا نتّعظ، فلا البكاء يعيد الميت، ولا الندم سيجدي نفعاً، القبر ضيق يكفي طمعاً، فلنفتكر ألا يكفي كم ذقنا جزعاً، من الضياع بنينا صرحاً هشّاً لا عماد لهُ، قضينا الأيام تفاخرًا ولهوًا، وقلنا فرصنا قليلة ضاعت سهوًا، فالنصيحة صارت: لعلّ الله يصلحكم وتهتدون، فالنصيحة عارية دون عمل، الحياة فارغة دون أمل، ودون الطموح الحياة لا تحتمل، فالتغير يبدأ من الداخل وليس ببضع جمل، طريق الخير واحد ومع ذلك ضُلّ، غُررنا بسواد لاحق يفتك بلا عدل، وحالنا كطرائد تفترس وتهيّئ نفسها للقتل، فالمضمون تصفه العيون وكلّ إناء يدمى لما فيه، الملامح خادعة سواد الروح بالنفاق تخفيه، ومنذ متى والدَين ينتظر أن نوفيه، نقضنا كلّ عهد ودين وصرنا من فئة الماكرين، مانعين متمردين حتى على أنفسنا فبتنا منفصمين، عن واقعنا وللزيف عاشقين، بالله ألسنا بضالين؟
التطور أسكننا القعر، والوهم يشعرنا بذعر، أرقام التفاعل تحدّد السعر، وما أبخس العهر، فيجعل شعور النقص كنيران تستعر، فبات التعاطف بكلمة أو بصورة، والقضايا منحورة، رؤوسنا مدثورة، ضمن نطاق هواتفنا محصورة، وعزّتنا مكسورة، والكرامة ليست بالضرورة، فعقولنا ضمن قارورة، مرمية ببحر الضياع مأسورة، فهذا ما يسمّى تطوّر هدم المعمورة.
لم يعد الغراب يدلّ على وجود جثة، ورغم التشابه ولكن هناك فرقًا بين الفراشة والعثة، ففي داخل كلّ منّا غراب يتغذّى على الآلام، والفراشة تتلقى العذاب بأعاصير الأحلام، فلا يغرّنك الجمال ففي النهاية هو حشرة، ولا تربطه بالشؤم فهو يتغذّى على اللحم، ولكن أين نحن من إيقاع اللحن؟
بماذا نرتبط، وعلى ماذا تدور عجلة الفهم، هل هنالك بصيص نور، ليدحر هذا الظلام القتم، أم كلّ شيء مبتور، أمام شؤم يقيّد حلمًا، والصراع قد حلّق بشراع ممزّق ليثبت بأنّه أيضاً يطير، ومن نقصه سيشرق من جمال مقطوع النظير، وشؤم يحرق كلّ الآمال، فما الأمر إلّا مرآة للمقارنة بين الخير والشر، الحلو والمرّ، ولكن بمفاهيم مرسخة بطبائعهم، فقتل الجمال معصية، وقتل الشؤم فضيلة، فالفراشة تطوف بين الأزهار، والغراب يحلّق بين القبور ومحافل الدمار، ولكلّ منهم دلالته، فشمولية التصنيف مرعبة، فالطفرات تصنع الفروقات حتى ولو كانت بنسب قليلة، فنحن أحياء فقط لأن ليس بيدنا حيلة، فأرواحنا مهمّشة وبصيرتنا مشوّشة، وكلّ مطامحنا للغة الدثر مدبلجة، فغيظ ملء الحشا يصهر الذات، ليصنع الغربة في الجسد والشتات، حتى نصبح الرماد والفتات، يقتات علينا الغربان والحشرات.
لم تعد تكفيني عُزلتي ولن تعفيني الخيبات، وكأنّي جدول تشطبني السيئات، وكأني معول أحفر في صخر عقولهم بكلمات، وكأني إبرة صدئة أخيط الجروح دون مهدّئات، نعم صراحة دون متغيّرات، أنا من ينظر إلى الصورة دون مجملات.
أردت أن أحرق مبادئي كي أصبح مثلهم ولكن لم أجد الوقود، فهو محتكر تحت وشاح ألف لعين حقود، أردت أن أخنق عواطفي، أفتح الغاز المنزلي وأذهب إلى عالم غير عالمي، ولكن الغاز مفقود، أردت أن أهاجر بأحلامي
ولكن دون تأشيرة، لم أصل حتى إلى سريري، فحاصرني ظلامي، أردت أن أسدّ جوع معرفتي، فرأيت شريطاً أسودَ على الخبز وصار غائبًا عن طاولتي، فاقتنعت بأنّ رغبتي مكبّلة، وحنجرتي مثقلة، وحيلتي مبتورة بمقصلة، وأنتظر حكمي من بضعة دمى، فصرت مجنونًا ملعونًا مفتوكًا مظلومًا، مسجونًا في واقع من الرحمة محرومًا، فقط لإني لم أسقط أو أتغيّر، لأني رفضت أن أدثر أو أن أُسيّر.
وهل يقتصر الموت على من يعانق الثرى، ها نحن قتلنا بعضنا بعضاً بغيبة، ولكن التاريخ لا يذكر مثل هذه المجزرة، بالله ماذا تسمّي هذا الحال، في رأسي ألف سؤال، وألف قيل وقال، وملكان على ميمنتي وميسرتي دوماً في جدال، وأفكاري دوماً في سجال، وآمالي فقدت في عملية احتيال، وللعالمين صرنا أقبح مثال، فبإمكانك أن تسمّي حالتي الاختلال الضال.