ارتحل منذ سنتين ويزيد أحمد سمعو في غربته، تزينه ضحكته، رزانته والبشاشة، ثم تبعه قبل شهور أحمد آخر، ذو ملامح بركية دافئة، يدعى أحمد سينو.
عدا عن كون الأحمدين أيزيديين؛ أي مقهورين حتى النخاع، وينحدران من بيئة ريفية، فلاحية مشابهة، فبين الفقيدين قواسم كثيرة مشتركة أو متناغمة.
أحمد سمعو، وبلا مقدمات، رفض مغتربَه الجديد، وأعاده حنين قهّار إلى"جهفة"؛ قريته المنتهكة، قبيل استيلاء تركيا على رأس العين وقراها، بمخالب داعشية مسممة، وتلويثها، من ثم، المكان كله، بذهنيات سلفية مسعورة من وحي همجيتها. أما أحمد سينو الذي اغترب وعائلته قبل ربع قرن أو يزيد، يتقاذفهم عبر طريق مُهلِك مهربون مافيويّون، من حضن "يخت معطل"، إلى صندوق "شاحنة دواب"، إلى ظهر سفينة أشبه بـ"بطة متوعكة"، تراءى بعد وصوله بالاندماج؛ إذ تجنس، لكن لغة وطنه الثاني تمنّعت عليه، فطفح كيله وتبرم من واقعه الجديد، بل عمق فيه رفض داخلي، دالًّا كـ"شاهد نفي"على سلوك موهوم بالاندماج. فالرجل لم يكن قد انسجم والاغتراب، بل جرجره وهم عرضي، إلى رضى مغلوط، بخلاف أحمد سمعو، الذي وسم المكان وواقعه القسري مذ وصوله بالمُغترَب، فشدّه وطنه "هناك" وتشوَّق إلى مشاويره؛ الراجلة او الآلية بـ"البيك آب"، بين مساحات خلابة له في عقار"جهفة" أو قربه، من بساتين وحقول زراعية، صيفية وشتوية معطاءة، ومروج آسرة، كأنها جنان هبطت من السماوات.
ذاكرة أحمدنا هذا حركت مهجته، فلاحت له أيام، كان يضبط فيها دشداشته المتدلية، ثم يشد وسطه بمحزم جلدي، ويلف"الشماخ" بطريقة تميّزه، حول رأسه، متفكراً في تسويق خضرته، عبر"دلّاليّ الكومسيون" إلى المستهلك في رأس العين، أو الحسكة وحلب ودمشق، إن فسدت أسعار و”بورصة" بلدته.
وأحمد سينو، كم شوهد مثقلا بحنين؛ يستهويه في مهجره، الخوض في سيرة خلّانه وجيرانه "هناك"، ويتغنّى برابية قريته؛ "تل زيغان" الطعينة قبل نصف قرن، بحفريات"هولغا" الألمانية وفريق عملها الأركيولوجي، وكم تنهد يشيد بشهادة السيّدة "هولغا" البحّاثة عن الأيزيديين، ياما فضفض أحمد سينو عن تعلقه بـ"هناك"، بخاصة بــ"تل طويل محشوش" و"تل زيغان" و"كُمَرغربي"، و"المخروم" و"عزيكة" و"الحفاير" عن تعلق الناس بتمرسه بالفلاحة، ونصب "موتورات" و"طرمبات الاستجرار"، على الأنهار والآبار والاقنية/عن انجذابه إلى كل من عاشرهم "ههناك" من كرد وعرب /مسيحين ومسلمين.
وأحمد سمعو، عرف كذلك بالمودة والفاعلية، وشاعت له حكاية عشق، مع بيادر قريته، دورها، بياراتها وتلتيها المطلتين على نهر الـ"جرحب" مع مساحات زراعية بعلية ومروية وآبارها الإرتوازية، ولا يتوانى مخالطو أحمد سمعو، عن الخوض في تواضعه، وحسن جيرته وانجذابه إلى"التراب/هناك"، وطالما أثنى على خبرته في الزراعة، وعبق خلقه جموع مخالطة من "البوعلاو" و"الغراجنة"، و"العدوان"، وكذلك "القصوارنة"، فضلاً عن القرى والبساتين الكردية والأيزيدية، وتتحسر عن حيويته وقلبه الودود، مَزارع؛ "باطري"، و"جان اسمريان"، و"عزيزعاصي"، وقرى "علوك غربي"، "علوك شرقي"، "حميّد"، "دردارا"، وربما "المِجيبرة"، و"الكاطوف"، و"السفح"، و"اللوذي"، و"ندّاس "و"تل صخر..."، المجاورات كلها لـ"جهفة" المحتلة.
مايزال جيران أحمد سينو ؛ بخاصة عوائل "الملّا"، والمحشوش"، وسكنى "المخروم"، يتغنون بمآثره الفريدة.
لا شك، فظروف فرار أحمد سينو كانت قاسية، بينما الحال اختلفت لدى أحمد سمعو، الذي هج كـ"ناجٍ من فم ذئب"، بعد أن أجهز الزبانية على رأس العين، إلى ألمانيا، فلم ينجذب إلى جمالياتها، ورتابة عمرانها وسوحها، وعجائبية عُقد مواصلاتها، وبريق شوارعها، ولا اجتذبه مطلقاً استقرارها، ولا رعاية حقوق الإنسان والحريات فيها، بل علقت روحه تبتهج بصخب "رأس العين"، بضجيج قراها الطينية، ورعونة طرقها المؤرقة بأتربة هائجة، وأمطار عاصفة، ووحول مزحلقة.
سرديات أحمد سمعو تمحورت كلها في غربته، حول "جهفة ورأس العين"، وكم حضرته أيامٌ، كان يحرّض فيها قصداً، المنافسة في مياومي "التعشيب" أو "التفريد" أو "الحواش"، المستقدمين لنجدته، ويلتزم، من ثم، بوعده حيالهم، مُكرِّماً كل مجتهد، وكم روى عن حمله الرفش أو الكريك، لمؤازرة "السقاجيّين" و"الفلاليح"، وعن تطوعه، إن أنجز عمله الخاص، لدعم أصدقائه ومقرّبيه بخبرته والمساعدة.
أحمد سمعو ضُبِط سَؤوماً بشدة من غربته، وقد يشهد موظفون في مطار برلين، بـ"مشاكسات شكلانية" لهم معه، وبتماديهم في التمسك بـ"روتينيات شكلية جداً"، معرقلين سفرة الرجل المشتاق، بعد كركبته ومرافقيه بـ: "اين" بمعنى: لا. وعدم المبالاة باحتجاجه.
قامت، لدى التشييع، الدنيا ولم تقعد على أحمد سمعو، والكلام عينه، تداوله قبيل شهور موارو أحمد سينو.
أشاع أحد مشيعي أحمد سمعو، أن عجوزاً ألمانيّاً طفح قُرْب المقبرة فضوله: هل راحلكم هذا سياسي كبير؟.
ـ سياسي...كبير!. بل فلاح متواضع.
قيل إن الراوي أدلى بهذا الرد، فتبدل لون السائل غير مصدق، وانصرف.
على كل، فحكاية الأحمدين ليست كناية عن قهر عابر، أو تجاوز فردي، بل تختزل معاناة إنسانية، قيحية، مزمنة لجماعة بشرية، تُجابَه منذ الأزل في وجودها والحقوق والخصوصية، بفرمانات "إبادة جماعية"، و"جرائم حرب"، و"جرائم ضد الإنسانية"، وقد يدلل تسليم ضريح هذين الأحمدين لـ"تربة" هانوفر، ورقود والديهما هـ"هناك" في الشمال السوري، وتناثر رفات أسلاف كل منهما، أو غيرهما من الأيزيديين في أرض ثالثة أو رابعة أو... أكثر؛ قد تكون تركيا أو العراق أو إيران أو أرمينيا، أن "الإبادة" ماتزال مستمرة، طاحنة ومتجددة، فمن منغّصات التاريخ الأيزيدي المُدمّى، أن يُمتنَع على حفيدِ، الدفنُ في أرض تضم لحد جده أو جدوده.