من المفترض أن يسعى الأدب إلى التعبير عن لسان حال الشعوب وبثّ شكواها وتجسيد أحلامها وتطلّعاتها، لا أن يكون مجرد أداة للإلهاء وتزجية فراغ الناس. لكن المتابع للحركة الأدبية في بلادنا يجد أنها تسعى في مجملها لمراوغة الرقيب والدقّ فوق فواصل الحروف تحاشياً للوقوع في كمائن السياسة تارة، وتجنباً للتصنيف الوطني أخرى، حتى فقد الأدب في بلادنا، أو كاد، روحه المتمرّدة التي تعمل إلى إعادة تشكيل الواقع لا تكريسه، والنهوض بالمواطن لا تضليله. لكن يبقى الأدب الحقّ يعلن عن نفسه بالرغم من مرور الزمن، لأن القضايا الإنسانية بسيطة بالرغم من تعقيدات طرحها، ومتشابهة بالرغم من اختلاف ملابساتها. ومن الأعمال التي قرأتها أخيراً فأثارت إعجابي بالرغم من بساطتها المتأنقة، وبالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على كتابتها، وتتابع عقود على رحيل مؤلفها السوري الكبير سعد الله ونوس، مسرحية "الفيل يا ملك الزمان!".
في بداية المسرحية، يجتمع الناس في حارة ضيّقة تمثّل ضيق حالهم وهوانهم ليتبادلوا الصمت الحزين والآهات المكتومة على طفل كان في الرابعة قبل أن يضع فيل الملك نهاية لحياته. لم يكن دهس الطفل أول سابقة للفيل، فقد سبق وهدم بيت محمد إبراهيم، وكاد يسفك دم أبي محمد حسان، كما قتل الماشية وأهلك الزروع والنخيل، ولم يسلم من شرّ خرطومه العابث حيّ ولا جماد. لكنه في النهاية فيل الملك، وللخرطوم حصانة تحميه ولو كره المتنطّعون. وهنا يتقدم البطل الشعبي الذي تخبئه الأقدار غالباً في ثنايا السرد ليقدّم نفسه كبش فداء لأمّة لا تستحق.
يتقدّم زكريا معلناً رغبته في توحيد الصفوف وترتيب الحروف استعداداً لرفع المظلمة للملك. لكن الحرافيش (والذين يكتفي ونوس بترقيمهم) يتورّعون كعادتهم عن التحرّش بالبلاط، فيذكرون فتوتهم المتحمّس بما يتناقله الحرس عن حبّ الملك المفرط لفيله، وأنه كان على وشك أن يطلق الملكة من أجل فلطحة أذنيه. لكن زكريا الذي لم يرد أن يسمع مزيداً من المبرّرات الكاذبة صمّ أذنيه، وقادهم إلى ساحة القرية ليتفق معهم على نصّ الدعوى. وكمايسترو هاوٍ، وقف الرجل يلقن حوارييه الجملة تلو الجملة حتى يرصف نشازهم ويوحّد نغمتهم إذا ما سمح لهم الملك بعرض شكواهم.
وذات جرأة، اجتمع معذبو القرية أمام قصر الملك مطالبين الحراس بالدخول. وبالرغم من فظاظة الاستقبال، سمح الحراس للحرافيش، الذين نسوا لهول الصدمة نص الدعوى، بالمثول أمام الملك. مسح الحواريون أحذيتهم ببلاط الشارع، وارتعدت فرائصهم وهم يتقدّمون عبر بهو ذهبيّ إلى بوابة عملاقة ما لبثت أن كشفت عن ساقيها، لتتبدّى لهم أنوار العرش، وليحنوا رؤوسهم طويلاً أمام ملكهم. طلب الملك منهم أن يعرضوا شكواهم، فتقدّم زكريا وهو يحلق في سماوات من التيه ليبدأ عرض دعواه.
تقدّم زعيم الحرافيش جوقة المستائين، وبدأ بعزف أحزان قريته المظلوم أهلها: الفيل يا ملك الزمان... لكن أحداً لم يُكمل: "قتل ابن محمد الفهد". فأعاد زكريا: الفيل يا ملك الزمان ... . لتكمل طفلة رافقت أمها ضمن الحشود: "قتل ابن..." قبل أن تخمد أمّها صوتها الواهن بكفّها الغليظة. كرّر زكريا عبارته: الفيل يا ملك الزمان... لكن أحداً لم يكمل: "كاد أن يقتل أبا محمد حسان، وأن يهدم بيت محمد إبراهيم". لم يقل أحد من الرعية أنه يخشى غدرة الفيل أو يخاف بطشته. وهنا طرأت على ذهن زكريا فكرة عبقرية للخروج من أزمته الطارئة.
قال زعيم الثوار إنّه وقومه يحبّون الفيل كما يحبّه الملك، وأنه يقترح على جلالته أن يبحث للفيل عن عروس حتى تملأ ذريته الأزقّة والحواري فتنهض البلاد ويسعد العباد. فتح الحرافيش أفواههم عن آخرها، لكنّهم كالعادة لم يقولوا شيئاً. استحسن الملك فكرة زكريا، وجعله حارساً شخصياً لفيله المفدّى، وأصدر أمراً ملكياً بالبحث عن عروس للفيل. وهنا طرح ونوس سؤالاً حائراً على النظارة تحت الخشبة على لسان ممثليه: "هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفيلة؟" ليتحوّل الممثلون فجأة إلى نظارة، ويرتبك المشاهدون فوق كراسييهم بعد أن عقدت دهشة السؤال ألسنتهم، ليتحولوا إلى جوقة من البكم الذي لا يجيدون رفع أصواتهم في حضرة الحياة.
هل أراد أن يرفع ونوس بصمت النظارة الحرج عن صمت ممثليه الذين أنستهم أضواء القصر وحراسه ما وطنوا أنفسهم للدفاع عنه؟ وهل أراد أن يرفع إصبعه في وجه الناس جميعاً متهماً ومحذراً؟ وهل يتوقع أن يستجيب أحد لنداء ونوس، أم أن مصير ثورته العرجاء سيكون تدليساً موشّى بالأكاذيب المنمّقة كما فعل زكريا ذات غضب؟ وهل يستمرّ جلد الذات هذا إلى ما لا نهاية بين شعوب لا تستطيع أن ترفع أصواتها في حضرة السلطان، لكنّها لا تكفّ عن البكاء والعويل في السرادقات والأزقة الضيّقة؟
أسئلة لا تكفّ عن الدوران في أذهان أناس لم يشهدوا من الهزائم العربية ما شهد ونوس، لكنّهم عاصروا من الثورات الفاشلة ما لم يعاصر ونوس. فهل يحاول أحدٌ أن يُحيي الجهود الونوسيّة بعد أن تزوّج فيل الملك وامتلأت البلاد العربية بالأفيال من كافة الأجناس والفصائل لتعيث في حياة الناس فساداً، وتأتي على كلّ أخضر ويابس؟ أم أن النجاح الذي حقّقه زكريا حين ركب حمار الثورة بالمقلوب قد أقنع الجميع بأنه النموذج الأصوب للزمن الباطل؟