النهار

أين كنت عندما دوى الانفجار؟ أين طارق؟
المصدر: النهار - يوسف غمراوي - الجامعة اللبنانية الأميركيّة
أين كنت عندما دوى الانفجار؟ أين طارق؟
تحكي القصة عن شاب لبناني، يعاني من مرض نفسي يدعى "اضطراب الهوية التفارقي"، أو ما يعرف بتعدد الشخصيات. يوم انفجار بيروت
A+   A-
خلفية القصة
تحكي القصة عن شاب لبناني، يعاني من مرض نفسي يدعى "اضطراب الهوية التفارقي"، أو ما يعرف بتعدد الشخصيات. يوم انفجار بيروت، عاش الشاب الكارثة من أكثر من منظور، وتخيل نفسه في أكثر من شخصية، فسردها من خلال هذه القصة القصيرة. لكتابة هذه القصة، أجرى الكاتب العديد من المقابلات مع ضحايا وعائلات تأذت من انفجار بيروت، وتالياً، فإنّ معظم الحوادث المذكورة مبينة على وقائع حدثت يوم الانفجار، مع بعض المبالغة عندما لزم الأمر.
البرعم الجديد
صمت أزلي عم المكان، عقارب ساعتي توقفت عن الدوران. وكأن الكون عند هذه اللحظة انتهى، في بقعة دمار كانت يوما تسمى لبنان. لا أذكر شيئا أبداً، انطلق دوي وانفجار عظيم، ومن بعدها رمينا أرضاً رمي الحطام. ابني طارق! كان بين يدي قبل الكارثة!
فتحت عينيّ، فإذا بي في غرفة جدارنها بيضاء، تزينها بقع حمراء داكنة. لا بد أنني في غرفة مستشفى. حاولت النهوض، فإذا بممرضة تردني إلى وضعية النوم.
"ابقي مكانك أرجوك، رأسك تعرض لجروح خطرة، ونحاول أن نجد لك غرفة عمليات في أسرع وقت ممكن" ردّت الممرضة.
صفعتها بما تبقى لي من قوة. سقطت أرضاً. وهربتُ برداء أبيض لا بد أنهم ألبسوني أياه قبل أن أصحو. ركضت كما لم أركض سابقاً. فتحت باب غرفتي، فإذا بعجوز ملقى على الأرض، لا يظهر من وجهه إلّا عينين حمراوين أغرقتهما الدماء. قفزت من فوقه، ومن فوق جثث أخرى ملأت الممرات.
وصلت إلى الشارع حافية القدمين، شلالات من الدماء تتساقط من رأسي، ومن جسدي، وحتى من قدميّ. أين أنا؟ أين كنت عندما دوّى الانفجار؟ أين طارق؟
لحظة! لا بدّ أنّ طارق يقف مثلي، على زاوية أخرى، يبكي وينتظر قدومي. ركضت مجدداً، ولم أتوقف، وكأن العالم أصبح طريقاً. لا أرى في نهايته سوى وجه ابني الصافي، وكأنّ مصير شعبي أن يبقى في بحار البؤس غريقاً، وكأنّ ما عاناه طوال سني الحرب ليس كافياً.
بعد ساعات من البحث، وجدت طارق، بثوبه الأزرق الممزق، بابتسامته البريئة الخجولة، بوجه ملائكي أبيض لم يمسه الغبار ولا الدماء. وجدته بعد أن أغمضت عينيّ استسلاماً، وسقطت أرضاً حلى حافة الطريق. التقينا في السماء، حيث ليس للفساد ولا للكراهية سبلاً لتفسد علاقة أمّ بابنها، لتشوّه أمومتي ولتنتشل طفلي من حضني.
في مشهد مختلف، أنا الآن أحمد، عجوز في السبعين، عالق تحت باب الدار. لقد مرّ خمس ساعات على الانفجار. حاولت النهوض مراراً، ولكن خانني جسدي. خانني ساعداي اللذان كان من المفترض أن يستريحا عند سنّ التقاعد، وظهري الذي انحنى سعياً طوال عمره وراء لقمة العيش. لم أقترب من الباب إلى هذا الحد من قبل، لم أتخيل يوماً أن يهمس باب البيت في أذنيّ، أن أسمعه يتكلم، أن يعيد إليّ ضحكات أولادي، و هرولة أحفادي في المنزل. أن يخبرني عن فرحتنا الكبيرة بولادة ابننا علي، عن رقصتنا الجماعية الأولى على ألحان فيروز، عن نداءات زوجتي الحنون وطهوها الشهيّ، و لحظات الحنين والمحبة والأمان التي قضيناها في هذا البيت.
في بلادي، تسلّم الفريسة نفسها لمطارديها، وتغرب الشمس قبل أوانها. في بلادي يشيب الرجل في شابّاً، ويكبر الطفل رضيعاً، وتُسلب المرأة أبسط حقوقها. في بلادي، يُذلّ العجوز في أواخر حياته ويسجن تحت باب الدار ويغمض عينيه استسلاماً، ولكن للمرة الأخيرة.
في مشهد آخر، أنا الآن سلمى، أخت فقدت أخيها شربل يوم الانفجار.
كنت مع عشرات المرضى، في الغرفة نفسها. البعض يبكي، البعض الآخر يصرخ. انا كنت من الذين سالت دماؤهم بدلاً من دموعهم. إلى جانبي، طفل صغير لم يكمل الخامسة بعد، يرتدي ثياباً رثّة، أو بالأحرى أصبحت رثّة، ممزقة، حملت ملامح الحرب. يقف قرب والدته، يسألها أن تستفيق.
ذرفت حينها دمعتي الأولى منذ لحظة الانفجار و عادت بي الذاكرة إلى لحظة وعيي الأولى بعد الانفجار:
استفقت ملقاة على الارض، الباب من فوقي، لا أقوى على الحركة.
كانت ضوء الأمل هناك في آخر النفق. رأيت في هذا الطفل لبنان كله، يطالبني وشعبي أن أنهض.
لا أريد أن نبني لبنان أحلامنا,،فأحلامنا باتت سطحية.
ربما مع تأمين أبسط متطلبات العيش للجيل الجديد، ترقى الأحلام إلى مستوى ما حققه رجال الاستقلال سابقاً. و حينها فقط، يمكن السعي من جديد للبدء برسم ملامح ما نسميه بـ"الحلم اللبناني الجديد".
الحرب لا تستأذنك حين تأخذ. ونحن في لبنان، نخوض حرباً شرسة مع الوطن. نعطيه مالنا وأبناءنا وأملنا ومستقبلنا. ونأخذ الموت، القليل من الأمل، والكثير من الدموع.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium