عنونّا المعركة، حليب وسيادة، حليب وكرامة، حليب مدعوم، هامات كذابة... ومكاسب. فلا كرامة ولا سيادة ولا إصلاح ولا إنقاذ، بل إقصاء وتجويع وثروات ونكسات وعلبة حليب عنونت مطالبنا وجلّ مطامحنا ومكاسبنا.
من ثورة تشرين عن السيادة والاستقلال الحقيقي والحرية والمواطنة والديمقراطية والمحاسبة في وجه المحسوبية، إلى ثورة في وطيس عراك العدس والحليب!
واللافت، ونحن في هذا الوطيس من العراك والضياع والتفلت، أنكم في هذا الدجل لا تملّون، والخطاب الخشبي لا يستسلم من النفاق حول الكرامة والسيادة والممانعة، وحول الإصلاح، وحول الكثير مما قرأنا في كتب الكشافة، وما عرفنا من مفاهيم الحكم الرشيد؛ لا تملّون من تلاوته، قرآناً وإنجيلا.
فيما تتمرسون في التخويف والتهويل عن العدو الأكبر والأصغر، لبس الكل ثوب العفة، وسطّرتم المحاضرات والخطابات ولوّنتموها بعبارات الكرامة هنا وهناك، ونحن نعرف أن الكذب لا بد أن يطفو على سطح الحقيقية ولو بعد حين.
وفي معركة الحليب؟ والهامات الكذابة؟ يا سادة، لم يعد همُّنا لا السيادة ولا الـ٥ زائداً واحداً، ولا ناقصاً واحداً ولا واحداً، بعدما عُدمنا، فهنيئاً لكم هذا الشرف وأنتم في لعبة الدول قِطَعَ شطرنج يتقاذف بها الأقوياء، فلا يهمّ إن كسبتم الصفقات وانتصرت المحاور وانتصر فريقكم أو فريقهم، والكلُّ من حولكم جياع... أو يَهمّ، لو صدحت لكم حناجر الرياء وفي قلب الغسق يُدعى عليكم بالفناء، صُبّحاً وظهراً ومساء !
يا سادة، لم تعد التنمية والعيش الكريم والرفاه في مؤشرات التنمية المستدامة ونوعية الحياة تقاس في لبناننا بمعدلات الثروات والصحة والتعليم والبيئة والعمالة والنفسية، ففي بلدي أصبح لغالون الزيت ميزان، ولعلبة الحليب مؤشر يقاس فيه معدل الرفاه في تعدادٍ لمن يفوز به مدعوماً في سوبرماركاتنا الفلتانة!
لا لن أحلل سياسةً مللناها، ومَن ردَّ على مَن، ومَن انتصر، ومَن هدّد، ومَن توعّد، ومن قابعٌ بانتظار ترقيته إلى رتبة رئيس أو انتزاعه من تكليف، أو وصول كلمة السر عن نووي أو مغنسكي أو ترفيع.
لا يهمّ، فهي سذاجة أن أفصِّل المفصَّل وأغوص في السياسيات العنجهية.
أنا لم أعد أدري عمّن أكتب... عنكم أنتم، أم عنّا نحن؟
نحن بين الرغيف والرغيف، بين المدعوم وغير المدعوم، والمفتول والمكفول والمغبون، في معركتنا، أسأل، وسامحوا سذاجتي: ما نحن؟ ثورة؟ ثورتنا عليكم وعلى مورثاتنا وعلى كل ما أوصلنا إلى هنا؟ على كل ما حطّمَنا وقتلَنا وجوَّعَنا وفجّرَنا؟
وهي لصورة عن ضياعنا وشرذمتنا وتخبطنا، ومليون صورة عن التناقض الذي جمعنا!
في مشهدية رمزية، إننا في ثورة جزءٌ منها اليوم في شاليهات وفنادق امتلأت لعطلة التزلج، يقابلها شارع أو شوارع صدحت على الطرقات وأحرقت الإطارات وبكت وصرخت ولامت وتوعّدت "لن ننسى"... وجزءٌ ما زال لا يفهمها لأنها أكبر من مفهومه وخارجُ منطقِ ما بُرِمِج لتحريكه.
وما زال هذا الضياع والتخبط والتسييس والتناقض سيد الموقف!
وفي ضياعنا، نواصل! جزءٌ ما زال في بيته قابع "يتفلقس" في الأسباب والموجبات، ومُحاورٌ ما زال يتفلسف على التلفاز، ومُحلّل مُصِرّ أن يشرح لنا كيمياء السياسة، فنحن من مفهومه الشعبوي لا نعرف وهو العريف!
ومن ثم نتابع مجموعة "المثقفون" يثقفوننا بتحليل وتفنيد الواقع! كأننا لا نعرف، وحتى لو عرفنا أو لم نعرف ما هو المغزى أن نعرف عن الخديعة والمحاور والتشرذم من دون أي بدائل أو رؤية أو قيادة لقلب الخطة...
ونحن في هذا وفي كل التمحيص والتعريف نغرق في ضياعٍ مطبق؟ نلحف أنفسنا من العواصف بالارتباك، بين مَن هرب إلى "vacances de neige" ومَن تدجج بالإطارات المشتعلة، ومَن بينهما تلطى في هذا التخبط وتغطّى في تضاد اللغة يشبعنا شعارات، ونحن في توتر وفي ضياع وفي توجس وفي ترقب مشين.
وهم يعرفون عن ضياعنا ما يكفي ليواصلوا معاركهم الفاشية، ونحن نغرق. وكما عوّدونا، هم لا يهمّهم من موتنا إلا مؤشر ارتهاننا في تأبينٍ لكل ما قامت عليه دولة لبنان الكبير وتمايزنا به على مدى مية سنة... والمطلوب تعبيد الطريق نهائياً، في لعبة الحليب و"الوعيد"، إما عبيداً أو رهائن!