عندما تحولت مطالب التونسيين بعد أكثر من عشر سنوات من ثورتهم إلى شعارات دون شغل، حرية، كرامة وطنية، وصار هاجسهم هو توفر المواد الاستهلاكية، صار لزاماً علينا أن لا نفترض في الزمن إفساد أخلاق الثوار وأن نفترض في حكامهم تجويعهم والتنكيل بهم، فكثيراً ما ساومت الأنظمة على مثُل وإيتيقا الثورات بالأمن والغذاء وحتى بالحريات، فنجح الكثير منها حتى في إقناع الوعي الجمعي بأن قادتهم الثوار مذنبون وأن نهجهم الأناركي هو الذي يهدد قوتهم واستقرارهم، لذلك قضى تشي غيفارا بوشاية الراعي الجائع ولم يفلت الكثير من الثوار من السجون والمنافي بينما كان أركان النظام في كل مرحلة يستقرون في منطقة الرفاهية المتاحة متى انطفأ الوعي الجماهيري نظرياً وتنظيمياً وهيكلياً وتحول إلى مجرد شعارات قد تساوي أو تتماثل مع شعبوية خطاب النظام نفسه، وهو تقريباً ما نعيشه في تونس حالياً...
القطيعة بين الطبقة السياسية والشعب:
هذه القطيعة التي ميزت أغلب النخب السياسية مع العمق الشعبي للبلد جعلته يسير في تيارات متوازية لم تعد قابلة للتقاطع، فالأحزاب السياسية أو رموزها تنكب على التموقع في المشهد السياسي الجديد لما بعد 25 تموز الأول ونظيره 25 تموز الثاني.
فالأولى أبّدت المعارضة الكلاسيكية في موقعها التقليدي منذ الثورة بعد ثلاث عمليات انتخابية كبرى كشفت هيمنة أحزاب اليمين الديني والليبرالي التي توافقت على مشهد سياسي ينبني على العملية الديمقراطية لكنه يزيفها ويجعلها أداة للحكم فقط ويفرغها من محتواها الذي قد يؤهل البلد لاستحقاقاته الاقتصادية والاجتماعية وذلك هو نهج الليبرالية حرفياً.
أما الثانية فقد دحرت كل الأحزاب والمنظمات والقوى الحية إلى ركن المشاهدة والترقب لخطوات الرئيس نحو نظامه السياسي الذي يبشر به منذ امتطائه صهوة 25 الأول الذي مازال متعثراً ولم يعرف طريقه إلى انتظارات الشعب الذي يريد.
أما عن الطبقات الشعبية فهي تسير في طريق مفتوح نحو مزيد من تدهور المقدرة الشرائية وندرة المنتوجات الأساسية التي صارت بدورها مشكلاً حقيقياً لم يتعود التونسيون عليه ولا يستسيغونه بقدر تقبلهم لارتفاع أسعار هذه المنتوجات إذا توفرت.
بدائل الطبقات الشعبية:
الطريق البديل الذي اختارته جل الطبقات الشعبية والذي أصبح محيراً فعلاً هو طريق الهجرة حيث انقسمت الهجرة إلى هجرة شرعية يبحث فيها التونسيون عن أوطان تحتوي خبراتهم وطموحاتهم وقلقهم من واقع بلدهم، وهجرة غير شرعية تبعث على القلق من حجم الإحباط وانسداد الأفق واختيار الطريق الأصعب للهجرة الذي قد ينتهي بالموت أو الترحيل.
في الجانب المقابل تحافظ الرواية الرسمية على استقرارها في سردية أن كل شيء بخير وأن ما لا يراه التونسيون خيراً ليس سوى مؤامرة من قوى هلامية لم تحن الفرصة بعد ليقتص منها التونسيون ويسترجعوا تونسهم التائهة داخل الخطاب الشعبوي الذي يثابر على الانفصال عن الواقع الملموس ويعمق الفجوة بينه وبين الرأي العام الذي تحول نحو اللامبالاة والتندر.
لكن ما يميز المشهد هو محافظة التونسيين على أملهم في مشهد بديل يتحقق متى صار قوتهم بمنأى عن الاحتراب السياسي والمؤامرة حيث لا يعتد التونسيون بهذه الروايات ولا يهمهم فعلياً سوى أن ينشغلوا بتحقيق حاجياتهم وتحميل حكامهم مسؤولية السهر على ذلك.
أي طريق للجمهورية الاجتماعية إذن؟
قد يبدو هذا التساؤل بديهياً، فالشارع التونسي هيأ كل الأسباب الموضوعية لتحقيقه، فمنذ الساعات الأولى لهروب بن علي وتحول الثورة التونسية إلى واقع سياسي له استتباعاته الداخلية والخارجية، أظهر الشعب التونسي نمطاً فريداً من التضامن الاجتماعي وحول عنف الثورة المضادة إلى فرصة تاريخية لتحقيق وحدته الوطنية ودرء كل الأخطار التي تتهدد وطنه. غير أن محاولات تفرقته نجحت لوقت طويل في إظهار الخلافات التي استثمرتها الطبقة السياسية لأغراض انتخابية معلومة، فأثارت مسائل تتعلق بالهوية والدين وحتى الجهويات والقبلية، لكن وسط كل ذلك ظهرت بدائل للجمهورية الجديدة والتي مازالت صالحة إلى حد اليوم وهي تخفيف العبء عن الطبقات الاجتماعية خاصة الهشة وتشغيل المعطّلين عن العمل بشتى أنواع العمل اللائق أمام النقص غير المبرر لليد العاملة في القطاع العام بسبب أنظمة التقاعد إضافة إلى التشريعات المنفرة التي تحكم العمل في القطاع الخاص وتؤدي إلى استغلال مجحف للعمال وتمترس أصحاب رؤوس الأموال وراء هذه التشريعات التي يفترض فيها حماية العامل والعمل قبل رأس المال.
برزت أيضاً خيارات جديدة دافع عنها كثيرون كالاقتصاد الاجتماعي التضامني الذي أكد على أنه بديل اشتراكي عصري منفتح على واقع السوق وقادر على استيعاب المعطلين داخل دائرة العمل التضامني الذي يحميهم من مركزة الأرباح وسلطوية رأس المال.
كل هذه البدائل ظلت مجرد تجارب محتشمة لم تظهر الدولة الجدية الكافية لإنجاحها وتشجيعها، ما جعلها تؤبد هيمنة الاقتصاد الريعي وتماديه في تحويل الطبقات الشعبية إلى رعايا في ظل هيمنة المؤسسات البنكية ومؤسسات القرض التي حاصرت الطموح والمثابرة وجعلتها مجرد أدوات غير صالحة للاستعمال وحولت البلد إلى سوق استهلاكية كبرى.
الحاجة إلى الديمقراطية:
أحد أهم دروس الثورة التونسية هو عدم المساومة على الديموقراطية وهي مسألة تجد جذورها في حرمان التونسيين لعقود من مناخ ديمقراطي حقيقي يتيح لهم اختيار حكامهم والتعبير بكل حرية واختيار ومحاسبة ممثليهم، إلا أن ربط المسألة الديمقراطية مع التدهور المقلق للأوضاع الاقتصادية وربط ما عرفه التونسيون من ديمقراطية مزيفة خلال العشرية الأخيرة يراد به استثارة رغبة بعض التونسيين في حاكم وحيد أوحد يتباهون بفردانيته كما فعلوا مع من قبله وليس تكريس ديموقراطية حقيقية قد تكون قاطرة لآمالهم الاقتصادية والاجتماعية.
لذلك يظن الكثيرون أن الرهان الديمقراطي ومناخات الحرية والعدالة غير مهمة لدى الطبقات الشعبية، لكن كثيراً ما تصطدم هذه الرواية برغبة التونسيين في تلازم كل شيء وهو ما يعود الفضل فيه إلى ثورتهم الأولى التي كانت تعبيراً واقعياً عن متطلباتهم الاقتصادية والاجتماعية المتمردة على حكم ديكتاتوري شمولي رافض لفتح أسوار السجن الكبير نحو حرية التونسيين فانتزعوها رغم كل شيء ويصرون على تحقيق "تونسهم" المنشودة جمهوريةً ديمقراطيةً اجتماعيةً رغماً عن الجميع.