في ظل التحديات والتغييرات الهائلة في الاقتصاد العالمي، تمكّنت بعض الدول النامية (دول آسيان)، تايوان، الصين،... من خلال تجاربها التنموية، من استيعاب معطيات الاقتصاد العالمي واستطاعت من خلال الاعتماد على إمكانياتها الذاتية الدخول بقوة في مسار المنافسة العالمية، فيما لا تزال بعض البلدان الأخرى ومنها لبنان تتخبّط تحت ظل التبعية الاقتصادية والمالية والأزمات المتتالية معرقلة مسيرتها التنموية.
لتصحيح المسار الإنمائي في لبنان يُمكن الوقوف على نموذج تنموي ناجح ومحاكاته وفقاً لما يتلاءم واقتصاد لبنان، ووضع خطة ورؤية استراتيجية على المستوى الماكروسوسيولوجي لتحقيق الأهداف التنموية.
النمط التنموي المشوّه
كان للبنان عند حصوله على استقلاله عام 1943 الخصائص الرئيسية لبلد من البلدان النامية وهي "تدني إنتاجية القطاعات السلعية واعتماد اقتصاده على الخارج، بالإضافة الى إيديولوجيا اقتصادية مستوحاة من أدبيات ميشال شيحا، وهو أنّ وظيفة اقتصاده تكمن حصرياً في الوساطة المالية والتجارية بين الدول العربية والدول الصناعية الكبرى.
الليبرالية المفرطة التي ميّزت النظام الاقتصادي في لبنان جعلته من أكثر البلدان النامية انفتاحاً على الخارج وأقله حمائياً من ناحية، والأقل تدخلاً في الحياة الاقتصادية، ويمكن القول إنّ لبنان قد اختبر بالملموس فوائد ليبراليته، وقد زوّدته هذه الأخيرة بقدرة تنافسية في المنطقة حققت له معدلات نموّ قلّ نظيرها محلياً.
لكن لم يأتِ التراكم الرأسمالي السريع الذي حققه الاقتصاد اللبناني نتيجة القدرة التنافسية التي كانت تُميّزه، بل نتيجة احتكاره لوضعه الجغرافي ودوره الوسيط في المنطقة، وهذا التراكم لم يُستثمر لتنمية القطاعات الإنتاجية الأخرى التي شهدت تراجعاً نسبياً لمصلحة القطاع الخدماتي، ولم توضع سياسات تنموية تسعى الى معالجة الخلل الناجم عن التفاوت بين القطاعات الإنتاجية.
لذا تميّز أداء الحكومات المتعاقبة في المحافظة على نظام الليبرالية الاقتصادية وعلى غياب البرامج الاقتصادية، لم يؤخذ بالحسبان بأهمية القطاعات الإنتاجية الأخرى، باستثناء السياسة الاقتصادية المتبعة في عهد الرئيس فؤاد شهاب 1958-1964 الذي لم يتوان عن العمل بمبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد من خلال وضع سياسات اقتصادية أعطت دفعاً قوياً للاقتصاد، ويُمكن القول إنّ تلك التجربة هي التجربة الوحيدة الإنمائية في تاريخ لبنان الحديث.
بعد الحرب فقد النظام الاقتصادي اللبناني العديد من حسناته (استقطاب الرساميل الخارجية، النمو الاقتصادي، دور بيروت المالي...)، وبقيت سيّئاته: لجم تطوّر القطاعات الإنتاجية، وعجز دائم في الميزان التجاري، ومضاربات نقدية وعقارية واسعة، وأزمات مصرفية، واحتكارات، وتفاوتات اقتصادية واجتماعية ومناطقية.
ولكن السياسات التي انتُهجت أعقاب الحرب اللبنانية، هي إعادة تجديد لأدوار النظام الاقتصادي السابق المتمثل بالليبرالية المفرطة في المنطقة دون الالتفات الى أولوية بناء الاقتصاد اللبناني المتكامل قطاعياً ومناطقياً، ودون اعتماد استراتيجية لبناء القدرات التنافسية للقطاعات الإنتاجية، والأخذ في الاعتبار خطورة التطوّرات المحلية والإقليمية والدولية، واشتداد المنافسة إقليمياً ودولياً من جهة أخرى.
لقد رسمت السلطة لنفسها دور استعادة دور لبنان السابق، في إطار شرق أوسطي جديد، وعلى استئناف مسيرة النمو الاقتصادي التي عرفها لبنان قبل الحرب وبالنمط نفسه القائم على إنتاج الخدمات لمصلحة المنطقة، التي لا يمكن التحكّم بأحجامها وكلفتها.
لم تسع السلطة السياسية الى تغيير المنظومة الفكرية الاقتصادية، وبذل الجهود للخروج عن الأطر التقليدية في التفكير السياسي والاقتصادي، والانتقال من نمط ريعي مرتكز حصراً على قطاع الخدمات والوساطة وبعض الخدمات المالية ذات القيمة المضافة المتدنية، وتحويلات المغتربين وعلى بعض الخدمات السياحية... إلى نمط تنموي يرتكز على تنشيط القطاعات الإنتاجية ذات الميزات التفاضلية، وتحفيز قدراتها التنافسية في ضوء المتغيرات الهائلة في الأسواق العالمية المعولمة، والعمل على تحقيق الإنماء المتوازن لاستغلال قدرات المناطق كافةً بحيث يُصبح لبنان مصدراً للفرص التي تتيحها العولمة، بالإضافة الى الخدمات ذات القيمة المضافة العالية في مجالات عديدة: إلكترونية، معلوماتية، تسويقية...
فتغيير النظرة إلى الاقتصاد اللبناني وخلق ثقافة جديدة بات حاجة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية، على غرار الدول النامية الآسيوية التي عززت قدراتها الاقتصادية واستطاعت الارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة.
لتحقيق هذه الأهداف لا بد من وضع خطط تنموية تسعى إلى الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، فلبنان يتميّز بثروات: طبيعية (مياه، نفط، أماكن تراثية...) بشرية ذات كفاءة تعليمية عالية وقطاعات إنتاجية واعدة، فإيجاد المناخ الملائم لخلق فرص العمل في مجالات الاقتصاد المعولم المبني على العلم والمعرفة والتكنولوجيا قد يؤدي الى إطلاق نهضة إنتاجية شاملة.
يُمكن للبنان أخذ العبرة من بعض الدول كماليزيا التي استطاعت بالرغم من صراعاتها الإثنية (الملايو، الهنود، الصينيون) وعدم اعتمادها على صندوق النقد الدولي لحلّ أزماتها اللحاق بركب التقدم، وكذلك كوريا الجنوبية التي عانت من أوضاع غير مستقرة وهي منفصلة عن شمالها وهي تتحمّل نفقات باهظة من جراء هذا الوضع، وأيضاً سنغافورة التي انفصلت عن ماليزيا في ظل ظروف صعبة وهي خليط من المذاهب الدينية والعرقية ومساحتها ضيّقة ومواردها شحيحة، ويُمكن للبنان أيضاً تخطي أزماته المتتالية النقدية السياسية الاقتصادية... واختبار تجربة تنموية متميّزة في تاريخه الحديث.