النهار

عائلة مدرسة القديس غريغوريوس
المصدر: النهار - كريس جبّور (تشوبوريان)
عائلة مدرسة القديس غريغوريوس
هناك أماكن في حياة الإنسان، يجبرنا مجرى الأيّام على هجرتها فتتحوّل إلى جزء من ذكرى
A+   A-
هناك أماكن في حياة الإنسان، يجبرنا مجرى الأيّام على هجرتها فتتحوّل إلى جزء من ذكرى، نزورها عندما تسمح لنا الأيّام لنعيد حنين الذكريات… ومنها مدرسة القديس غريغوريوس.
هذه الأماكن نعرف قيمتنا عندما نتركها، فنتذكّر القصص التي حصلت فيها، ونشتاق إلى الأشخاص الذين عاشرناهم. هذه المدرسة تعيّد اليوم مئويّتها، كجدّةٍ عجوزة تقلّب صفحات ألبوم الصور، تتذكّر بداياتها وتفتخر بأحفادها التلاميذة القدامى.
كلبناني من أصل أرمنيّ لم أتعلّم في مدرسة أرمنية، لكنّني كبرتُ في مدرسة، احتضنت منذ البداية الأطفال الناجين من الإبادة الأرمنية. كلّما كنت أمرّ قرب المبنى الأصفر، كنت أتذكّر كيف احتضن المؤسّسون، في عنبرٍ عام ١٩٢٣، الأرمن قبل أن ينشئوا المبنى الأصفر فتبدأ رحلة مدرسة القديس غريغوريوس.
كبر الجيل الثاني للناجين من الإبادة الأرمنية في هذه المدرسة أيضًا، وتربّوا على يد الأب ساهاك كيشيشيان، مدير المدرسة من عام ١٩٦٠ حتّى عام ١٩٩٨. هذا الإنسان الذي حُفر اسمه على باب المدرسة، إلى جانب أسماء الآباء الآخرين، وأيضًا في وجدان أهالينا الذين لطالما استذكروه وكأنّه الأب الروحي للأرمن.
وبعدها، تربّينا نحن أيضًا فيها، فحملنا معنا الذكريات، وتعلّمنا منها الدروس لمدى الحياة.
أهمّ ما نقلته إلينا هو روح العائلة. في آخر شارعٍ في منطقة الجعيتاوي البيروتية، بين الأساتذة والنظّار، كبرنا في جو عائلي، تعلّمنا فيه القليل من الدروس المملّة والكثير من الدروس الحياتية. في النهاية، الدروس العادية يبقى منها الأساس، ويُنتسى الجزء الكبير منها. لكن دروس الحياة تبقى كلّها في ذاكرتنا لتنير لنا طريق المستقبل. كنت أحبّ أن أمضي وقتاً مع الأساتذة والنظار والعاملين في المدرسة لأتعلّم من تجاربهم في الحياة، هم الذين نقلوا لي رسائل دون إدراكهم. كم كانت مفيدة بعد مغادرتي المدرسة!
في كل حفلة أو مهرجان تنظّمه المدرسة، يتحوّل المكان إلى خليّة نحل، فيعمل الجميع، كباراً وصغاراً، لإنجاح الحفلة. كعائلة صغيرة تتحضّر لاستقبال الضيوف، فالكلّ يعمل لتنظيف المنزل وتحضير العشاء. كنت أحبّ أن أتواجد في هذه الأوقات بالتحديد، فأكتشف أنّ نفس الشخص الذي كان يؤنّبني أحيانًا، يعمل معي سويًّا اليوم بابتسامة وحماسة، لأتعلّم أنّه فرد من العائلة تمامًا، يؤنّبني لمصلحتي؛ وفي الحقيقة ليس في قلوبهم سوى الكثير من الحبّ.
في مدرسة القدّيس غريغوريوس، تعلّمنا كيف لكل واحد في هذا المجتمع دوره وقيمته، وتعلّمنا أنّ المنصب ليس سوى مكتب في آخر الطابق، لا تدوم لأحد، ولا يجعل من الشخص أعلى مرتبة من الآخرين، بل يعمل الجميع معًا لإنجاح المدرسة.
وذات يوم، فيما كنت أساعد الناظر في استقبال الأهالي الوافدين لحضور حفل أولادهم، لمح اقتراب سيّدتيْن، فالتفت إليّ وربّت على كتفي، قائلاً: "اذهب بسرعة واستقبلهما حتّى مقعديهما، ولا تسأل أي سؤال، فسأفسّر لك كلّ شيء فور عودتك". وفعلاً، نفّذت ما طلبه منّي، وعند عودتي قال لي: "هاتان السيّدتان ستلتقي بهما في السنوات المقبلة في المدرسة. تعلّم في الحياة أن تكون لطيفًا مع الجميع، وأن تسلّم عليهم وتبتسم لهم، وأن تظهر بأجمل صورة لك أمامهم، فلربّما لن يتذكّروا اسمك، لكنّهم إذا جمعتكم الأيّام مرّة ثانية سيشعرون بلطفك من بعيد كذكرى محفورة في قلوبهم…".
هذه واحدة من الدروس التي تعلّمتها في مدرسة القديس غريغوريوس، وواحدة من الرسائل التي نقلها لي الله لأكمل مسيرتي.
المدرسة ليست المبنى الذي نتعلّم فيه الكتابة والقراءة والرياضيات وحسب، بل المجتمع الذي نكبر فيه لنبني شخصيّتنا… فإلى جانب العائلة، تأتي المدرسة، في تربية أجيالٍ صالحة في المجتمع.
في مئويتك، مدرسة القدّيس غريغوريوس، شكرًا لعطاءاتك وروحك الطيّبة، على أمل أن نكون على قدر آمالك فينا.



الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium