أكتب إليكِ هذه الرسالة مع اقتراب نهاية العام وفترة الأعياد، لذلك أعتبرها رسالة ذات طابعٍ خاص، نظرًا لمستوى السعادة غير العادي الذي ألتمسه في الأجواء أينما ذهبت. رغم أن ما سأخبرك عنه اليوم ليس له علاقة مباشرة بالأعياد وأفراحها، بل قد يكون شيئًا من سخرية الأقدار أن أروي لكِ ما سأرويه في إحدى هذه الأمسيات السعيدة.
كانت الساعة السابعة مساءً، حين مررت بقرب المنزل الذي طالما اعتبرته المنزل الذي لن أحصل عليهِ أبدًا، ولا أتكلم عن الجمال المحيط به، والذي يتسرب إلى كل ركنٍ من أركانه، بل أحدثك عن الحياة التي كانت تحدث تحت سقفه.
كانت الزينة من حوله تُدخل الفرحة في قلب الناظر إليها، مهما تعاظمت أحزان الأعياد في صدره، والحديقة دائمة الاخضرار، غير آبهةٌ بتقلبات الطقس، ما يبعث في النفس نوعًا من التفاؤل غير المبرر. لا أخفي عليكِ ربما أبالغ في وصف حبي لهذا المنزل، فلو مررتِ أنتِ به لوجدته كومةً من الحجارة على جانب شارعٍ أنيقٍ ليس أكثر، ولكن أعذريني فالفرد منّا عندما يرغب في شيءٍ لا يملكه، يحيد برأيه وقلبه عن الواقع، وقد يصل الأمر به إلى أن يرى أشياءً لا وجود لها من الأساس.
لم أكن لأقص عليكِ هذه الحكايةَ، لولا اختلاف المشهد الذي اعتدتُ أن أراه ذاك المساء، فعندما كنتُ أبطئُ من مشيي لأسترق النظر من بعيد إلى النافذة المطلة على الشارع، والتي تضيء غرفة الجلوس، لأتخيل نفسي أحد أفراد تلك العائلة ولو للحظاتٍ، لم أجد سوى الطفلتين أنّا وماري تلهوان بألعابهما بوجهيهما العابسين على غير العادة - لا تهتمي كيف كنت أعرف اسميهما، فلقد كنتُ صدفةً أسمع الأم تنادي عليهما إذ حان وقت العشاء - ولسببٍ ما لم تكن طاولة العشاء جاهزة يومها، نعم لقد حفظت تقاليدهم، لا بل كنت أشعر بأنهم يتركون مقعدًا خاليًا لي أو لعابرِ سبيلٍ مثلي على المائدة معهم، ربما ذلك المقعد من نسج خيالي أو واقع لست واثقًا على وجه الدقة، لكني كنت أراه، كان أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال.
أكملت مشيي مثقلًا أنظر باستغرابٍ إلى النافذة التالية، علّي أن أكتشف ما الأمر المهم الذي حدث وألغى مراسم العشاء والفرح المعتادة، فإذ بي أرى امرأةً تحقن يدها بإبرةٍ باكيةً، حتى أني كدتُ أشعر بحزنها يمزّق صدري ويسقطني أرضًا. إنها نفسها صاحبة الصوت الذي طالما سمعته ينادي الطفلتين إلى العشاء. كان الزوج راكعًا أمامها، رأسهُ على ركبتيها، وكأنه يحاول عبثًا حمل شيء من الألم عن جسمها الضعيف.
مرّت دقيقةٌ كاملة نسيتُ فيها التقاط أنفاسي، استجمعتُ بعدها كل قواي، ومضيتُ إلى حيث لا أدري حاملًا ألم تلك المرأة وحزن زوجها معي في كل خطوةٍ، دون أن أنسى وجه الطفلتين الوحيدتين في غرفة الجلوس، إنها لعنتي يا حبيبتي ماذا عساي أفعل، لي ذاكرة لا تنسى وقلبٌ يتسع لحزن أي عابر سبيل.
عدتُ إلى منزلي في ساعةٍ متأخرةٍ ذاك المساء، لا أذكر أين أضعت كل ذاك الوقت أمشي، لا أذكر سوى أني عدت لأبحث عن حقيقة ما رأيت. لقد كنت أعرف إسم الزوج وعائلته، فهو رجل ليس بالمغمور في تلك المنطقة، فحاولت البحث عن أي شيءٍ يرتبط باسمه، ولم أعانِ كثيرًا حتى وصلت إلى أجوبة تفسرُ ما رأيت في مسائي الأخير. في الصفحة الثانية من الجريدة الأشهر محليًا العائد تاريخها إلى 26 كانون الثاني 2010 عنوان يقول "وفاة إبن رجل الأعمال... غرقًا"... "إنه تاريخ البارحة نفسه"!
كنت أنظر بعين الحاسد من تلك النافذة الواسعة إلى عائلةٍ تبكي ابنها في ذكراه التاسعة، كم شعرت حينها بالحزن والغباء معًا، إن المقعد الذي كنتُ أتخيله كان حقيقيًا، كان ذلك المقعد الفارغ دائمًا له وليس لي، لم أكمل قراءة المقال. وتصورت أن الأم ربما تتعاطى نوعًا من المخدرات لتنسى مأساتها، أو ربما هو مجرد مهدئ أعصابٍ تحتاجه في ذكراه الموجعة في هذا الوقت من كل سنة.
منذ ذلك اليوم قررتُ أن أسلك طريقًا آخر لمنزلي، وإن كان أطول ولكنه دون شك أخف ألمًا، ولم أعد أنظر إلى البيوت التي أمر بقربها، حتى أني أصبحت لا أنظر في عيون المارة الغرباء كي لا أصادف قصصهم الموجعة فأتألم لأجلهم، أو أفراحهم فأتألم لأجلي. عندها فقط شعرت أن منزلي هو منزل الأحلام، الذي طالما حلمت به، لكني كنت أعيش في منازل الآخرين.