تنهال على مسامعنا في الفترة الأخيرة انتقادات لاذعة تُثقل كاهل معظم المعلّمين والمعلّمات الّذين قدّموا ولا يزالون يقدّمون الكثير من أجلنا جميعًا. يؤسفنا أن نصل إلى مرحلة نرى فيها الأستاذ مسلوب الكرامة، مُلزماً على العمل، ليس من أجل أن ينال أجرًا لا يلامس المئتي دولار في معظم المدارس، إنّما من أجل الحفاظ على ضمان اجتماعيّ يكاد يكون مزيّفًا، أو من أجل الحفاظ على سنوات التّعويض الّتي تكاد تفقد قيمتها المادّيّة، أو حتّى من أجل الخدمات الّتي تؤمّنها بعض المدارس بهدف تعليم أولاد المعلّمين، أو أيضًا من أجل أن يكمل حياته بأقلّ قدرٍ ممكن من "الكرامة"، أو مثلًا من أجل رسالة لا يزال يؤمن بها...
لست هنا في معرض التّشهير بأحد، ولا حتّى الإساءة إلى أيّ موظّف، أو عامل أو مدير أو صاحب مدرسة أو أهل، إنّما الكلمات هذه نابعة من حرقة قلب على من يبنون مجتمعًا، كلمات نابعة من حرقة قلب على من تُخنق أصواتهم يومًا بعد يوم، حرقة قلب على من يتمنّون قضاء عطلة صيفيّة تُنسيهم المعاناة الّتي يمرّون بها أقلّه لمدّة أسبوع واحد، إنّما لا يجدون سبيلًا إلى ذلك، لأنّ معاشهم يكاد لا يكفيهم، راتبهم يكاد لا يغطّي أموال المواصلات والاشتراكات اليوميّة. هذا لأنّ راتبهم لا يزال بالعملة اللّبنانيّة، بالعملة الّتي أغرقتها مافيات هذا البلد وأوصلتها إلى قعرٍ مؤلمٍ مؤذٍ.
في السّابق، كانوا يحسدون الأستاذ، يحسدونه على أشهر الصّيفيّة الثّلاثة الّتي تحوّلت مع الزّمن إلى شهر ونصف لا أكثر. كان أكثر شخص يُحسَد، إلى أن شلّته الكارثة الاقتصاديّة، شلّته لدرجة أنه تحوّل إلى إنسان مسلوب القوى، مسلوب الحقوق، هو الّذي، أشِئنا أم أبينا، الوحيد الّذي يبني الوطن، هو الوحيد المؤهّل لبناء مجتمع واعٍ وراقٍ ومثقّف، ولولاه لما وجد الطّبيب ولا المهندس أصلًا، لا القاضي ولا المحامي، لا المعلّم ولا المُحاضر، لا المُحاسب ولا الخبير...
فهل يجوز أن تُهمل حقوقه بهذا الشّكل؟! بينما المطاعم تغصّ بالزّبائن، وشواطئ البحر مرصوصة بالزّوّار، ومعظم القطاعات باتت تتعامل بالعملة الخضراء، بينما هو لا يزال يقبض بالعملة الوطنيّة، ينال أجرًا مُهينًا لا يكاد يكفيه ليكمل شهره من دون أن يختنق، والمضحك المُبكي أنّه مثله مثل أيّ مواطن عليه أن يدفع ثمن حاجاته على سعر صرف السّوق السّوداء وذلك من خلال راتبه!!!
مجدّدًا، لست في معرض التّهجّم على أحد، ولست في معرض الدّفاع عن الأساتذة حتّى، إنّما ما يحصل بحقّ مجموعة كبيرة جدًّا من هؤلاء جريمة ستكلّف بلادنا في المستقبل ثمنًا باهظًا. فالاستقالات بالجملة، والوضع النّفسيّ للّذين يُكملون في هذه المهنة مزرٍ. على الرّغم من أنّ بعض المؤسّسات التّربويّة قد تداركت الأمر وحاولت قدر الإمكان تصحيح أجور أساتذتها، إلّا أنّ مجموعة كبيرة من المؤسّسات لا تزال في حالة ركود، إمّا لأنّها عاجزة أو لإنّها غير مقتنعة. وهناك مؤسّسات أخرى تُحاول قدر المستطاع من خلال أصحاب النّيّة الطّيّبة لكنّ الأمور غالبًا ما تبوء بالفشل بسبب ردّة فعل الأهل الّذين هم بأنفسهم يعانون ما يعانيه الأستاذ.
"الدّولرة" تلقي بأجنحتها على كلّ القطاعات في البلاد، ولكن أن تدخل إلى المدارس الخاصّة من دون التّسبّب بأزمة إضافيّة بين المدرسة والأهل هذا شبه مُستحيل! وأن يذهب بعضهم بالتّمتّع بالرّفاهيّة على حساب الأساتذة هذا أمر غير مقبول! هذه مجزرة وطنيّة تربويّة تُرتكب بحقّ وطن بأكمله، بحقّ مجتمع بأكمله. فإمّا أن تُشرّع الدّولرة على الجميع بالعدل والمساواة وإمّا أن تُسحب من قاموسنا جميعًا. هذا التّفاوت في المستوى المعيشيّ على كلّ الأصعدة يشرذمنا، يطحننا، يسلخ قلوبنا فردًا فردًا!
لذا، كفانا تشهيرًا وكفانا توزيع الاتّهامات يمينًا ويسارًا، ما يمرّ به الأستاذ اليوم إهانة بكلّ ما للكلمة من معنى، هو الّذي لولاه لما وجدنا جميعًا، ولما كنت قادرًا على قراءة هذه الكلمات حتّى!
بربّكم أنقذوا ما تبقّى من وجه لبنان الحضاريّ،
أنقذوا هذا القطاع من الانحطاط قبل أن يفوت الأوان،
أنقذوا راية العلم والثّقافة قبل أن تتمزّق في وجه تلك الرّياح العاتية،
وإلّا رحمنا اللّه جميعًا!