السّماء صافية، الشّمس ساطعة، والطّقس حار. في شقّة صغيرة واقعة في إحدى ضواحي بيروت، في غرفة متواضعة تحتوي على الأساسيات لا أكثر، ينام روميو، طالب متفوّق في الجامعة اللّبنانيّة، وهو اليوم، وبسبب الإضراب، لم يتجه إلى جامعته، بل، وبعد تفكير دام أشهراً، ومن أجل تحقيق مستقبل أفضل، سيذهب إلى مكتب، في وسط بيروت، للحصول على تأشيرة سفر إلى فرنسا.
استيقظ روميو باكرًا، بعد ليلة لم يغفُ فيها إلّا لساعات متقطعة، خليله البعوض والطّقس الحارّ. لبس ثيابه وخرج ليحتسي القهوة مع والديه قبل أن يغادر، "العدرة تحرسك يا ابني، تبقى طمّنّي شو بصير معك"، بهذه الكلمات رافقته والدته وقبل أن تكمل جملتها، انقطع التّيار الكهربائيّ. ابتسم روميو ساخرًا: "يلا كلّها شهر وبرتاح".
السّماء صافية، الشّمس ساطعة، والطّقس حار. ورغم كلّ الأزمات التّي تصيب لبنان، اندهش روميو بجمال مدينته وهدوئها الغريب في هذا الصّباح. كانت السّيارات تمرّ بهدوء الواحدة تلو الأخرى، والجيران على الشرفات والأرصفة يتبادلون الأحاديث. ساعتها أحسّ بشوق وحنين ما قبل الفراق، والرّغبة بالبقاء. شدّ عزيمته، اتجّه نحو سيارته، وحاول أن يشغّلها. مرّة... اثنتين... "يلّا التّالتة ثابتة"، لكنّها لم تكن. عندها تذكّر: "أكيد مشكلة بنزين".
-ألو، مرحبا أبو سعيد، شو وضع البنزين اليوم؟
-والله يا أبني، في نطرة والتّنكة بـ500 ألف.
-"شو بدي أعمل؟". وقف روميو ساهيًا بالقرب من سيّارته، وهو يسخر كيف أنّ أزمات البلد تعيق خروجه منه، لكن، لا بأس سيبقى مصرًّا على تحقيق هدفه: مهما ارتفع سعر الوقود، ومهما طال خطّ الانتظار، سيذهب. ملأ سيّارته بالقليل من البنزين من جاره الحلّاق وديع: "ما تحمل همّ، معبّى المولّد مبارح، المهم تتيسر يا خيّي".
السّماء صافية، الشّمس ساطعة، والطّقس حار. وروميو الآن جالس في مركبته، أمامه ما يقارب الـ50 سيّارة. جالس تحت لهيب الشّمس، للحصول على الوقود، أبسط حقوق المواطن، وبأعلى الأسعار. 40 سيّارة بعد... 30 سيّارة... 20 سيّارة... ساعتا انتظار والآتي أعظم. كاد أن يصيبه اليأس وعرقه يتصبّب بغزارة. فجأة علا صوت: "سكّرنا المحطّة".
شووووو؟
ركن روميو سيّارته على طرف الطريق. وأوقف سيّارة أجرة:
-مرحبا عمّ، عساحة الشّهدا، أديش عم تاخد.
-والله يا إبني، 200 ألف.
-200؟ ما بدّا تلت ساعة!
-عندي 3 ولاد، وبالكاد عم إقدر طعميُن، حتى ما عم شوفن كلّ النّهار ناطر، تا عبّي بنزين.
-ع راسي تكرم يا عم، خلّينا نتيسّر.
السّماء صافية، الشّمس ساطعة، والطّقس حار. وروميو الآن أخيرًا متجه إلى مركز طلب التّأشيرات. لكنّه على طريقه شهد المزيد من مأساة بلاده.
-ليك يا إبني ليك! النّاس بالميّات إدام البنك، ناطرة تقبض 100$ تشتري فيها خبز.
هؤلاء كانوا، نعم كانوا، أناساً ميسوري الحال من الطّبقة الوسطى، وغدوا اليوم يتوسّلون ويتسوّلون أموالهم، بعد أن نهبتها جيوب الحكام الفاسدين. في بلد المأساة، على اللّبنانيّ أن يستعطي للحصول على أمواله الشّخصية من أجل تأمين خبزه اليومي، الذي هو أيضًا بات مقطوعاً.
السّماء صافية، الشّمس ساطعة، والطّقس حار. روميو الآن وصل إلى وسط بيروت، لكن هذه المرّة، اختفت فجأة المأساة. ابتهج قلبه عندما رأى مجمعات "بيروت سوق" تعجّ بالنّاس. دخل مكتب طلب التّأشيرات، وتذكّر دعوات والدته، اذ تيسّرت الأحوال، وأنهى معاملته بساعة فقط.
أخيرًا حصل روميو على تأشيرة السّفر! خرج فرحًا حالمًا ليتمشّى في السّوق، ولكن...
فجأة،
لم تعد السّماء صافية، غابت الشّمس الساطعة، ولكنّ الطّقس ظلّ حاراً.
"لم نستطع إلى الآن أن نعرف الأسباب الواضحة لانفجار الرّابع من آب، الذي دمّر بيروت. مدينتنا منكوبة!! أسبوع مرّ، وما زالت مناطق الأشرفية، الكرنتينا، الحمرا، ووسط بيروت الأكثر ضررًا. أكبر انفجار غير نوويّ، حصد إلى الآن 6000 جريح، 142 قتيلاً، وأكثر من 000 300 منزل مدمّر". قالت إحدى المذيعات على تلفاز، من غرفة استشفاء إحدى ضحايا الانفجار.
"حبيبي سامعني يا ابني". تردد أمّ روميو طوال النهار، هذا الشاب المتفوّق الذّي، وبسبب الانفجار، بات أذناً لا تسمع، وعيوناً مغلقة لا تبصر ضوء الشمس، هو في كوما عميقة في سرير غرفة أحد مستشفيات طرابلس، لأنّ حال مستشفيات بيروت يعجز وصفها بالكلام.
في بلد الاستمرار، روميو ضحيّة حيّة من ضحايا انفجار المرفأ، هو والمئات الذين رآهم يتسوّقون بحثًا عن بهجة في بلد اليأس، هو والـ50 سيّارة التّي كانت تنتظر للحصول على الوقود، هو والنّاس الذّين كانوا يقفون أمام المصارف للحصول على بعض المال، والذين يتوسّلون ربطة الخبز من أمام الأفران، هو والجالسون في منازلهم خوفًا من كورونا، هو والواقفون أمام الصّيدليّات ينتظرون شراء الدّواء المحتكر من قبل شركات لا ضمير لها.
شهر مرّ، وعائلة روميو عاجزة عن تأمين الدواء المقطوع. ليصبح عدد ضحايا الانفجار 143، آخرهم حالم لم يبصر حلمه النور.
ستقولون لي إنّني تحدّثت عن أكثر من قضيّة اجتماعيّة. صح، عن أزمة البنزين، ارتفاع أسعار المحروقات، انفجار المرفأ، الدّواء المقطوع، الخبز المقطوع، الإضراب المستمرّ للجامعات، انقطاع التّيار الكهربائي، كورونا، الأموال المنهوبة، هجرة الأدمغة، العاصمة المنكوبة، الفقر، كل هذه القضايا التي ذكرتها في النص، فضلًا عن الفساد، الأمن المضطرب، انخفاض قيمة العملة، الثّورة، التضخم، النّفايات، المياه المقطوعة، التّلوّث، التّي لم أذكرها أصلًا.
كلّ هذه قضايا اجتماعيّة كان باستطاعتي أن أتناولها على حدة، كموضوع لنصّي. لكنّني اخترت قضيّة اجتماعيّة أعظم، أحزن، وأكثر أسًى، إنّها:
" يوميات اللّبنانيّ".