أزمة مشتقات النفط في لبنان دليل على خواء الإدارة الحكومية في هذا البلد، وتضاف إلى الكثير من الأزمات نتيجة السياسات الخاطئة التي تنتهجها، وتتحمّل مسؤوليتها الطبقة السياسية الحاكمة بأمرها بكافة اختلافاتها وتشعّبها وتجذّرها في مستنقع الفساد المستشري في البلاد والعباد.
- كان لبنان في الماضي يستفيد من مصفاتَي طرابلس والزهراني لتكرير النفط الخام وتحويله إلى مشتقات للاستخدام الحياتي، وهذا كان يوفر عملة صعبة باعتبار أن النفط الخام أقلّ تكلفة من مشتقاته (البنزين والمازوت والكاز وغيرها). وكان بإمكان لبنان أن يصدّر فائض البنزين إلى الخارج ليحقّق ربحاً إضافياً.
لكن الحسابات الخاصّة أقوى من حسابات الدولة والمصلحة العامة بوجود شركات خاصّة تتولّى استيراد وتوزيع المحروقات، وقد يكون عليها أن تقفل أبوابها إذا عاودت المصفاتان العمل مجدّداً.
"كانت إيران تستورد البنزين حتى قبل سنوات قليلة خلت، عندما قرّرت الحكومة الأميركية فرض عقوبات على الشركات التي تورّد البنزين إلى إيران".
فالإيرانيون لا ينتجون البنزين الخاصّ بهم، فقاموا بتوسيع عمل مصافي النفط وإنشاء مصافٍ جديدة. تمكّنت إيران خلال مدة وجيزة من تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة، فتمّ تصدير الفائض إلى الدول المجاورة حيث ارتفعت صادرات البنزين الإيراني 600% على أساس سنويّ في 2020 إلى ثمانية ملايين طن، بمعدّل 180 ألف برميل يومياً.
العبرة من هذا العرض المعلوماتيّ الإشارة إلى أنه كان من الصعب أن تسلك إيران طريق الاستقلال في إنتاج البنزين لولا تعرضها للحصار والحظر النفطي.
وهذا الدرس يمكن أن يطبّقه لبنان بنجاح من خلال إعادة تشغيل مصفاتَي طرابلس والزهراني للتخلّص من أعباء الاستيراد المهلكة، إذ يستورد لبنان ما قيمته 1.4 مليار دولار من البنزين سنوياً، وفق أرقام العام 2018 "وإما من خلال استغلال الوقت والاستفادة من ثروته النفطية والغازية في مياهه الإقليمية".
- مع إتمام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني المحتل، وموافقة الطرفين عليه رسمياً، اتجهت الأنظار في لبنان إلى مفاعيله وانعكاساته، وانتقل البحث من خطوط الترسيم ونقاطه الحدودية إلى حظوظ البلاد وآمالها باستخراج الثروة الغازية، التي تحولت إلى أمل شبه وحيد أمام اللبنانيين للخروج من أزمتهم الاقتصادية الخانقة.
يعيش لبنان منذ العام 2019 انهياراً اقتصادياً ومالياً أدى إلى تداعيات كارثية، وصنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، حين بات أكثر من 80 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، فيما قفز سعر صرف الدولار أمام الليرة اللبنانية من 1500 ليرة للدولار إلى 40000 ليرة، ممّا أفقد رواتب اللبنانيين قيمتها الشرائية، ورفع مستوى التضخم إلى نسب قياسية، لاسيما لناحية أسعار المواد الغذائية والسلع الرئيسية كما ارتفع سعر صفيحة مادة البنزين خلال عام واحد بنسبة 346%.
يبدو لبنان متأخّراً بسنوات عدة عن جيرانه من دول الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، في مسيرة استخراج الغاز وبيعه. ففيما بدأ كلّ من الكيان المحتلّ ومصر وقبرص باستخراج الغاز من البحر وبيعه للأسواق العالمية، لا يزال لبنان ينتظر مرحلة التنقيب التي لم تبدأ بالفعل، فيما لم يجر تلزيم إلا منطقتين فقط من أصل 10 "بلوكات" (بلوك رقم ٤ وبلوك رقم ٩).
تتراوح التقديرات لبدء استخراج الغاز في لبنان ما بين 5 و7 سنوات، إذا ما سارت كلّ الأمور بوتيرة سريعة من دون عرقلة من الشركات أو الحكومة، أو تأخير في المسار والتراخيص، يُمكن أن تزوّد الأسواق الداخلية بحاجتها، حيث يجب أن تكون قد تحوّلت معامل إنتاج الكهرباء الحرارية إلى الغاز؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى المصانع المحليّة وغيرها، والكميّات الفائضة يبدأ تصديرها إلى الأسواق المستهدفة.
أما السؤال الأبرز الذي شغل اللبنانيين في الأيام الماضية فهو كم يبلغ حجم ثروة لبنان النفطية والغازية؟
بناءً على تقديرات أوّليّة اليوم، ومع صعود سعر الغاز بنسبة 400 في المئة فيما سعر المليون وحدة حرارية للغاز التي كانت تبيعها روسيا لأوروبا بـ5 دولارات، بات سعرها 65 دولاراً، يمكننا فهم حجم ارتفاع أسعار الغاز عالمياً، وبالتالي ارتفاع قيمة ثروة لبنان الغازية التي باتت تقدّر حالياً بما بين 500 و600 مليار دولار. ويُمكن غداً أن ينخفض سعر الغاز، وستنخفض معه قيمة هذه الثروة.
حصة لبنان من البلوك رقم 9 تبلغ 62 في المئة مقابل 38 في المئة للشركات، وقد تختلف هذه النسب بين شركة وأخرى وحقل وآخر، ولكنّها دائماً ما تكون حصّة الحكومة اللبنانية هي الأكبر، وتتجاوز الـ55 في المئة وصولاً إلى نحو 65 في المئة، وهذا القائم عالمياً حيث تحصل الحكومات على الحصة الكبرى.
لكن التحدّي الأبرز أمام لبنان يتمثّل في الاستفادة من ثروته الغازيّة والنفطيّة، ويكمن في طريقة إدارة حكومته لهذه الواردات وسبل استثمارها في المجتمع والاقتصاد اللبناني، ولكن لا يبدو حتى الآن أنّ هناك خطّة واضحة بعد أمام اللبنانيين، فيما سوء التقدير والأخطاء بدأت مع إبرام الاتفاقات قبل الوصول إلى الاستخراج.
لكن الخبراء الاقتصاديين يخشون سوء إدارة عائدات الغاز في لبنان، لا سيما مع الحديث عن إمكانية استخدامها في سداد ديون الدولة اللبنانية التي بلغت في العام 2019 نحو 91 مليار دولار، فيما خدمتها السنويّة تبلغ نحو 3 مليارات، الأمر الذي يمكن أن يبدد تلك العائدات دون أن يحل الأزمة الاقتصادية اللبنانية بشكلٍ جذري، بل سيقلّل فقط من وطأتها مرحليّاً إلى حين التوقّف عن تصدير الغاز، الذي يُعتبر مورداً غير متجدّد.
مخاوف أخرى تثار في لبنان من إمكانية استخدام عائدات النفط والغاز لدفع أموال المودعين المحتجزة في المصارف، لكون ديون الدولة اللبنانية في جزء كبير منها تعود إلى المصارف اللبنانية، ممّا من شأنه أن يؤمن سيولة تمكّن المصارف من الدفع.
أما أبرز المخاوف الشعبية المطروحة فتكمن في إمكانية ضياع ثروة النفط والغاز بالتحاصصات الطائفية والمناطقية، وبالتالي خضوعها لسطوة الفساد اللبناني والأحزاب السياسية التي أدّت إدارتها للبلاد إلى الانهيار القائم حالياً.
لبنان اليوم عثر على كنز، وأكثر من ذلك لن يكون له فرص كبيرة في تاريخه؛ كلّ ما بعدها سيكون أقلّ من ذلك، وبالتالي تحاصص هذه الثروة بهذه الطريقة سيكون كارثة الكوارث.