بدأ العالم ينحو نحو سباق تسلح فظيع، والشرق الأوسط يستورد وحده ثلث مبيعات الأسلحة عالمياً، والسعودية تستورد ربع صادرات أميركا من السلاح. وفعلاً، ما فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، من خلال إرسال جيشه لغزو بلد بحجم أوكرانيا، أعاد البشرية إلى الخلف عشرات السنين لناحية التوترات الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية على صعيد العالم ككل.
دول متوسطة بدأت تنافس الدول الكبيرة في صناعة السلاح، كتركيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية وإيطاليا وأخرى تنتج لنفسها، كإيران وكوريا الشمالية والبرازيل وأوكرانيا، ودول جديدة ستضاف على اللائحة، فالمعرفة أصبحت منتشرة، وأغلب الدول بدأت تعيد حساباتها في ظل الأوضاع العالمية الراهنة.
طائرات من دون طيار استطلاعية وهجومية وانتحارية وأجهزة تشويش وسفن وطرادات وأنظمة صواريخ أرض - جو وأرض - بحر، وإعادة تشكيل الخطط على ضوء ما يحصل على أرض المعركة في أوكرانيا، فهي حرب بين جيشين يملكان الأسلحة وعدداً كبيراً من الجنود، والعالم يستثمر ألفي مليار دولار سنوياً على الأسلحة والدفاع، وهذا المبلغ كافٍ لإطعام كل البشر طوال العام.
على سبيل الأمثلة، ها هي الجزائر تستعرض أسلحتها الروسية بوجه المغرب الشقيق في عيد استقلالها الستين، لقد خسرت معركة الصحراء الغربية، مقابل حنكة المغرب، والسعودية والإمارات تحالفتا مع إسرائيل لتوازنا الدفة مع إيران، ومصر زاد استيرادها للسلاح بشكل مطرد، فحماية الغاز في البحر وتأمين طريق السويس يمثلان تحدياً كبيراً وعليها أن تمتلك جيشاً قوياً.
السؤال المطروح اليوم، بعد تهديد زعماء روسيا بالسلاح النووي لعدة مرات، هل ستكتفي الدول بالترسانات التقليدية؟ أشك، طبعاً في ذلك، وأعتقد أن لا شيء سوف يمنع كوريا الجنوبية واليابان مثلاً من صنع السلاح الذري لردع كوريا الشمالية والصين معاً، وأعتقد حال إعلان تملك إيران للقنبلة النووية التي يقال إنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليها، لن تمضي شهور حتى تعلن السعودية امتلاك هذا السلاح الفتاك بمساعدة باكستان وهو ما سيدفع دولاً كتركيا وألمانيا والبرازيل لتملك هذا السلاح الرادع ولن يقفوا مكتوفي الأيدي.
إذن، هو ليس تغييراً طفيفاً مرتقباً في النظام العالمي، ينتهي عند حدود التعاملات التجارية وحرب العملات، والقضية أصبحت ليس قضية جزء أو قطعة أرض شرق أوكرانيا وتنتهي إطلاقاً، القضية برمتها أضحت معقدة ومتشابكة على الصعيد الدولي، فمنها ما هو نفسي ومنها ما هو تاريخي ومنها ما هو أقتصادي، وسيتولد نظام عالمي جديد، وبعض الدول، لن يقبل بأن تبقى فقط خمس دول مهيمنة على القرار العالمي من خلال امتلاك حق النقض في مجلس الأمن، وسيطالبون بتغيير النظام الذي تم إنشاؤه عندما كان عدد سكان العالم حوالي ملياري نسمة واليوم نشارف على 8 مليارات نسمة، أي أربعة أضعاف، كما أن حوالي 80% من سكان العالم اليوم يعيشون في آسيا وأفريقيا.
سيبدأ كباش جديد بين دول وحيدة أو مجموعات، مثلاً دول أفريقيا ستطالب بمقعد دائم والدول العربية كذلك وأميركا اللاتينية أيضاً على أن تعطى بعض الدول الأخرى حق النقض كالهند واليابان وألمانيا، أو ستتم مطالبات بإلغاء حق النقض لكل الدول وهنا يكمن الخطر الحقيقي، وقد أغفله الرئيس الروسي في حساباته وسيصبح السلاح النووي، عاجلاً أم آجلاً، عبارة عن قطعة معدنية لا تصلح للاستعمال، لأن أغلب الدول المؤثرة ستتملكه في ظل هذا السباق المحموم.
سيعاد أيضاً تشكيل أولويات الدول بالنسبة للتحالفات الأمنية وأيضاً الاقتصادية. فمثلاً بدأ الكلام عن تشكيل حلف ناتو شرق أوسطي بطبيعة الحال، يمكن أن يضم دول الخليج والأردن وإسرائيل ومصر والمغرب، ولمَ لا العراق؟ وستسعى تركيا في هذه الحال، رغم وجودها في حلف الناتو، إلى أن تعمل على توفير مظلة أمنية مع العمق التاريخي الآسيوي مثل أذربيجان وكازاخستان والحفاظ على علاقة متينة مع طهران لحماية ظهورهم كما فعلوا منذ عشرات السنين، لكن يبقى الوضع في شرق آسيا هو الأخطر على الإطلاق، في ظل صعود الصين والهند ونفورهما الواضح وعدد سكانهما المخيف وتسليح كوريا الشمالية المرعب مع نظامها غير المتوازن.
دول كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا معهم سيخفت بريقها في المدى المتوسط، عندما ستتنافس الكتل البشرية ذات الأصول الواحدة أو الميول الواحدة، فدول أوروبا الشرقية ستكون في صف ألمانيا قلب أوروبا ومصنعها كما هولندا والدنمارك والنمسا والدول العربية ستكون في حلف مع إسرائيل الذي أصبح أمراً واقعاً ويمكن للمنطقة أن تستفيد من الطفرة المالية الهائلة لتحقيق نمو سريع متوقع سيعطي مكانة لمجموعة العرب على الصعيد الدولي وستبرز البرازيل، والمجموعة اللاتينية، فبلادهم بغناها الطبيعي وعدد سكانها الكبير ستعطى وزناً لا يُستهان به، وإندونيسيا كذلك بموقعها الكبير ستلعب دوراً مستقبلياً، كما أن دول أفريقيا يمكن أن تقسم إلى ثلاث مجموعات، وستبقى أميركا الشمالية القوة الاقتصادية الأولى عالمياً طبعاً بدمج كندا والمكسيك مع أميركا أعني في الاقتصاد والمسائل الأمنية.
هذا بالحرف ما يمكن أن يحصل في المدى المتوسط، وما أقدم عليه بوتن سيغير العالم حقيقة، منطقياً وأخلاقياً وإنسانياً ليس من المقبول اليوم، أن تقدم دولة على غزو أخرى فقط، وإخافة العالم بأكمله بمجرد امتلاكها للسلاح النووي وتعري القوانين الدولية كما لو أنها غير موجودة، وفي ظل هكذا سيناريو سيأتي يوم سيقول فيه بوتن لربما لو كنت أعلم... آه لو كنت أعلم.