حاول العديد من الفلاسفة والمفكّرين على مر العصور تحديد الإنسان ومفهوم الإنسانية من خلال أوجه عديدة، حيث كان للدين الأثر الأبلغ في المقاربات العلمية، أو أحياناً كانت المادة هي الآلية المتّبعة لإيجاد الأجوبة عن أكثر الكائنات تعقيداً، وانتقل الإنسان في هذه الفانية من حالة إلى أخرى، قد يسميها البعض تطوّراً والبعض الآخر حضارة، إلى جانب أسماء أخرى كثقافة الشعوب والعادات المستحدثة إلى ما هنالك من تسميات، لكن الإنسان هو ذاته، هذا الكائن الاجتماعي، المليء بالأحاسيس والرغبات والتطلّعات لإثبات نفسه وللاستحصال على ما يريده.
في ظل تراكم المعرفة الإنسانية، وما آلت إليه في أيامنا هذه، ما زال البشر يعملون لإثبات ذواتهم داخل عائلاتهم ومحيطهم ومجتمعهم منتقلين إلى السياسة والدين، لإثبات حقائق يعمل على تعميمها على أكبر عدد ممكن من الناس لفرض هيبة أو لحب السلطة، في زمن يبتعد فيه الإنسان عن تحقيق الأمور السامية وينسحب إلى تحقيق الأمور الدنيا أو الأدنى درجة.
في ظل العولمة هذه أصبح الممنوع مباحاً، والمرفوض مسموحاً، وما كان غريباً طبيعياً، وبدأت الثقافات تتلاطم بدل أن تتعاون، وأصبحت حجج الإقناع مادية، واختبأت أحياناً الحقيقة خلف أسوار شاهقة مما يسمى علوماً، وهو ما أدركه بعض من البشر وفرض على الآخرين من خلال الدراسات والإحصاءات والتعاميم، إلى أن أصبحت هذه الحالات بالنسبة للكثيرين حقائق، غير آخذين ضمن الخيارات الأمور غير الملموسة، والتي تشكّل الجزء الأكبر والأسمى من وجودنا كبشر، ولكن هذا الكائن وإن استوطنته المادية لا زال هو هو، بحاجة للتواصل مع الآخر، علماً بأن التواصل الأعلى يبدأ مع الذات، وهو ما يغيب عن العديد من الناس.
في ظل الحاجة إلى التواصل تطوّر هذا المفهوم ليصل إلى حدود لمّا يكن بإمكان الإنسان الحلم بتحقيقها منذ بعض من العقود، لا بل السنوات، حيث منذ بعض الوقت بدأت التكنولوجيا ترسي الأطر الحديثة للتواصل في ما بيننا، من الحصان إلى السيارة، من الباخرة إلى الطائرة والقطار، من الهاتف الأرضي إلى المحمول ومنه إلى عصر الانترنت، وكل هذه التقنيات وجدت لتصغير المسافة بين الناس والتواصل اجتماعياً في ما بينهم، لا بل كان تحقيق الذات اقتصادياً يهدف لإيجاد فرص عمل للمحتاجين أو لأجل تأمين الحاجات الأساسية والضرورية للحياة من دون إلغاء خصائص بشرية، كالقدرة على الاستمتاع أو التحدي والطموح... إلى ما هنالك من أطر لتحديد الشخصية الفردية التي ترتبط بعلاقة اجتماعية مع غيرها من النسيج البشري.
لكن الحقيقة الدامغة أبعد بكثير ممّا هو حاصل، فالمعرفة أصبحت مادية، وتكنولوجيا التواصل في هذا العصر قد تعمل على إبعاد الفرد عن الآخر بدل أن تقرّب المسافات، وأصبح التواصل بين البشر إلكترونياً بدل أن يكون إنسانياً بكل ما للكلمة من معنى، وابتعدنا عن أسمى الهبات التي ميّزتنا كبشر عن بقية الكائنات، أعني بها العاطفة الإنسانية، هذه العاطفة الاخلاقية التي يعمل من خلال تقنيات حديثة على تدميرها في هذا "الزمن البائس" الذي أصبح فيه الإنسان آلة لا بل رقماً، بدل أن يكون كائناً أخلاقياً يمارس قناعات تتلاقى مع الآخر للإبداع والخلق...
هكذا أصبحت السياسة فاقدة للأهداف التي قامت من أجلها، وأصبح العديد ممن في مراكز مسؤولة لا همّ لهم سوى أنانيتهم ومصالحهم ولو على حساب، ومن حساب الناس... فهل سيستفيد المواطن وينفض عنه الاستزلام والتبعية ويعود إلى تواصله الإنساني الكياني الأساسي للوجود والبقاء؟