ما أكثر عبيد الحياة لأنّهم يتغلّبون علينا بأعدادهم لا بعزم أفرادهم!
ولو كانت قيمة الأفراد بالأعداد، لكان الجراد أعظم المخلوقات قدراً.
هم كعميان يقودون عمياناً الى حافة المنحدرات.
وكموتى تدفن الموتى مع براعم الحياة المزهرة.
وكجهالة تتفاخر بجهالتها العمياء.
وكالسجناء المكبلين بسلاسل العبودية.
وما العبودية سوى نسيج هزيل حاكته أياد آثمة،
قد فرحت بارتدائه أجيال كثيرة.
هم كالأعداء لا يلتقون إلّا في ذروة بغضهم
ولا يهجمون إلّا في اشتداد مخاوفهم وتفاقم أوهامهم.
لقد طلبوا موته لشدّة خوفهم منه ولارتعابهم من تمرّده
على شرائعهم الزائفة، ولأنّه أراد أن ينقل الضائعين
من صحراء الحياة الى ينابيعها وواحاتها.
إنّه يسوع الناصريّ الذي تحمل الخيانة قبل أن يتحمّل آلام الصليب.
خيانة يهوّذا، نكران بطرس، هروب يعقوب وكافّة التلاميذ، شكّ توما
بن تيوفانس، وتنكّر الشعب الهائج الذي جاء ليخلّصه.
وما أكثر أشباه الـ "يهوذا" في أيّامنا هذه.
يقتربون منّا كالأصدقاء، وهم أعداء يضمرون لنا الشرّ والبغضاء.
هناك صورة في أحد متاحف الفنّ تصوّر يهوذا وهو يسير بعد ليلة الخيانة،
متجوّلاً في ظلام الليل، حائراً مضطرباً فإذا به يلتقي بنجّار
يصنع صليب يسوع، يعاونه آخرون وقد أوقدوا ناراً
والبعض منهم كان متعباً نائماً، ومنظر يهوّذا يمثّل منتهى الرعب والندامة
حينما يرى الصليب الذي نجم عن خيانته.
مع أنّ الفنان قد أحاط وجهه بظلام الليل ولكنّه في الوقت نفسه
يمسك بعنف بصرّة النقود، ويبدو في عجلة مسرعاً في طريقه.
يا لها من صورة رهيبة تملأ القلب بالحزن.
وما أكثر أشباه الـ"بيلاطس" في حياتنا اليوم.
عندما اتّخذ قراره الرهيب لمحاكمة يسوع،
كان صراع ما بين حيرته وضميره. وأخذ ماء وغسل يديه
بأنّه ليس مسؤولاً عن فعلته. ولكن لا قوّة تغلب الإنسان
وترغمه على فعل ما هو خاطئ، إن لم تكن له الإرادة الشخصية.
فكانت نهاية بيلاطس الطرد من مركزه والانتحار
لأنّه عندما حكم على يسوع كان قد حكم على نفسه.
فيا لها من مؤامرة بشعة ومأساة مؤثرة وجريمة نكراء عندما صلبوه.
وعند أقدام الصليب، التقى رجل أبيض بقسّ أسود اسمه كومالو
وكان ابن القسّ الأسود قد قتل ابن الرجل الأبيض.
فنظر الرجلان الى بعضيهما بنظرات متساوية
لأنّه عند ذروة الألم، ترتفع النفوس الى ما فوق الأحزان.
واستفاق الشعب الهائج ولكن بعد فوات الأوان.
فقد صرخ اليهود بعد ذلك :"دمه علينا وعلى أولادنا"
وقد حلّت الويلات باليهود في الأربعين سنة التي أعقبت
صلب المسيح وانتهت بسقوط أورشليم.
فعلى الجبال المحيطة كان يصلب الآلاف منهم،
والذين نجوا من الموت سباهم الرومان.
فلنرفع الصليب أمام من لا يعترفون به
ولنثق بأنّ كلّ القوى لا تستطيع أن تقف ضدّه.
وختاما نردد مع الشاعر: "ليس الصليب حديداً كان بل خشبا
إذا نظرت الى أين انتهت يده وكيف جاوز في سلطانه القطبا
علمت أنّ وراء الضعف مقدرة وأنّ للحقّ لا للقوة الغلبا"