اعتمد لبنان منذ أواخر القرن الماضي سياسة ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على سعر ثبت عند ١٥٠٧.٥ ليرة للدولار الواحد كسعر وسطيّ، فحافظ على الاستقرار المالي والنقدي طوال الفترات المتتالية، التي جعلت من مصرف لبنان الأب الفعليّ لهذه السياسة متدخّلاً في الأزمات، ومراقباً الاستقرار حتى العام ٢٠١٨.
لكن سوء الإدارة في العام ٢٠١٩، لا سيّما عدم الالتزام بمقررات مؤتمر سيدر، أدّى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي انحداراً، وصولاً إلى ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩ واستقالة الحكومة آنذاك، وإقفال المصارف لفترة زمنية فيها العديد من الشكوك، وصولاً إلى عدم التزام لبنان بدفع ديونه الخارجية أوائل الـ٢٠٢٠، وانفجار المرفأ الكارثيّ في صيف العام ذاته، وانتهاءً إلى ما نحن عليه اليوم من تعدّد أسعار الصرف، بين السّعر الرسميّ الذي يوازي الـ١٥٠٠ ليرة للدولار؛ وهذا أصبح ينطبق فقط على القمح ورواتب الإدارات الرسميّة والضرائب والرسوم العائدة للخزينة، وبين سعر الصّرف لدى المصارف، والبالغ ٨٠٠٠ ليرة مقابل الدولار، وبين سعر صيرفة الذي يتأرجح منذ تلك الفترة، والذي يقارب حاليا الـ٢٥٠٠٠ للدولار، وأخيراً سعر السوق الذي تتجاذبه التجار، ويوازي ما يقترب من الـ٣٠٠٠٠ للدولار الواحد.
يعود كلّ ذلك إلى زيادة الطلب على الدولار وانخفاض عرضه، وهي القاعدة الأساسيّة في مبدأ الاقتصاد العام، أي العرض والطلب. ولعلّ الإبقاء على سعر الصرف الرسميّ أصبح من المستحيلات غير أن تعديله يتطلّب جهداً كبيراً، بداية بإقرار القوانين بفكّ الارتباط والتثبيت، وهذا ما سيتبعه تعديل للأجور والرواتب؛ وذلك لوحده كافٍ لارتفاع التضخم إلى أرقام خياليّة مع عدم إيجاد أرضيّة للاتفاقات الخارجية مع لبنان للحدّ من التدهور الحاصل في ما يخصّ العملة الوطنية، ناهيك بمسألة الدولار الجمركيّ والدعم وغيره؛ فإذن، على أيّ سعر ستكون قيمة الليرة؟ السعر الفعلي هو ما نراه في الأسواق اللبنانية (ثلاثون ألف ليرة للدولار)، فلا سعر المصارف ولا سعر الصيرفة قد يستمران طويلاً أمام ما يحصل في الأسواق.
الحلّ واحد هو استعادة الثقة الخارجية لاستعادة القروض والهبات والاستثمارات، ويليها استعادة الثقة الداخليّة بالمصارف، التي تأتي بعد استرداد ما حُجز من أموال المودعين وفق آلية قانونيّة تُشرف عليها دولة متجدّدة جديدة بخطط علميّة ودستوريّة تضع مصلحة اللبنانيين أولاً.
من هنا، نعود إلى نقطة البداية ألا وهي التغيير الحتميّ للطبقة السياسية التي أودت باللبنانيين وبلبنان إلى هذا الدرك الخطير سياسياً واقتصادياً.