صنفت أزمة لبنان كإحدى أقسى الأزمات على مستوى العالم في التاريخ الحديث، وما زاد الأزمة تعقيداً عجز النظام حتى عن المبادرة في الحلّ. ردّ الكثير منهم السبب إلى فساد الطبقة الحاكمة أو عدم كفاءتها. فكانت النتيجة الحتمية لذلك مطالبة اللبنانيّ الصادقة بتغيير الوجوه الحاكمة.
لا يحتاج أيّ إنسان لديه الحدّ الأدنى من الأهلية العقلية لأكثر من ساعة من الشرح عن نظام الحكم في لبنان، حتى يدرك انّه نظام غير سويّ. تجمع مدارس الادارة على أن الهرمية تنتهي برأس واحد سواء أكان هذا الرأس شخصًا أو مجلسًا أو مجموعة أو جهة، وقد وصلت هذه المدارس بعد خبرة طويلة الى أنّ إرتقاء أو انهيار مجموعات تبدأ من العقد الأسريّ وتنتهي عند شركات ومؤسّسات وحتى دولٍ وأمبراطوريات.
رغم هذا يصرّ اللبنانيون على تجربة "المجرّب"، إذا أخذنا في عين الاعتبار الخصوصية اللبنانية المتمثلة بتعدّد الطوائف (والتي في نظري هي خصوصية تبعث على الغنى وليس على التناحر)، فلا بد من إيجاد رأس لهرمية الحكم تبعث الحياة والانتظام في الدولة، كما هو منطقي وطبيعي. وهذا الرأس أو المرجع أو الحَكَم يجب أن يكون بعيداً كلّ البعد عن آفة الطائفية التي تمثل الشمّاعة التي تعلّق عليها جميع مصائب البلد، بناء على ذلك ورغم وجوب إلغاء الطائفية السياسية بشكل كامل في نظري، وإذا سلّمنا جدلاً بصعوبة الغوص في نظام جديد للبنان، فإنّي أرى أنّ السلطة القضائية هي الحلّ لمعضلة الحكم في لبنان.
في الحرب العالمية الثانية، وبعد تحرير شارل ديغول فرنسا، تسابق الناس لإخبار ديغول عن صعوبة الأوضاع ومستوى الدمار الذي حصل، فما كان منه إلّا أن سأل عن حال القضاء، فلما أجابوه بأنّ القضاء بخير قال: "إذًا فرنسا بخير. لسنا بعيدين في لبنان عن هذه الفكرة إٕذ لطالما رفعنا شعار العدل أساس الملك، ولكن كغيرها من الأفكار كما القوانين والأعراف، أخذنا قشورها وتركنا أو تجاهلنا اللبّ.
ولكن لماذا القضاء بالتحديد من بين جميع السلطات؟ يدور القضاء حول محور العدل واللجوء إلى معيار أوحد في اتخاذ القرارات والأحكام، انّ تمكينه وإعطاءه كلمة الفصل سوف يساوي بين اللبنانيين دون الأخذ في الحسبان الطائفة أو الانتماء السياسي. فلننظر حولنا لنرى كم من مشروع أو فرصة أو وظيفة أو أكثر من ذلك أو حتّى أقلّ، فقدت أو أهدرت أو حرمنا منها بسبب أحد أوجه التنوّع أو الاختلاف الذي نعيشه في لبنان. من شأن المساواة الحقيقية بين اللبنانيين أن يوحّد صفوفهم ويجعل ولاءهم للوطن بدل الولاء للطائفة أو الزعيم. نعم، هناك مساواة في لبنان لكن على مبدأ الظلم بالسوية عدل بالرعية، ولكنّ هذه المساواة لا تبني وطناً بل تبني إقطاعيات.
خصائص السلطة القضائية ومقومات أعضائها من النضوج العلمي والثقافي والاجتماعي يجعل هذه السلطة ذات مقوّمات للقيام بدور الحكم الصالح المرجوّ منها. ولكي تتمكّن هذه السلطة من القيام بدورها يجب تمكينها من خلال: إعطائها الاستقلالية الكاملة في اانتخاب رؤسائها وأعضائها، إدخال التطور العلمي في برامجها واعتماد التكنولوجيا والتحديث الرقميّ في جميع أقسامها ،التشدّد في قبول القضاة الجدد باعتماد معايير موحّدة لجوهر الأشخاص، فلا يُقبل في هذه السلطة إلّا نخبة النخبة، اعتماد معايير واضحة في التوظيف وإدارة جميع مرافق الدولة، تحديث وتفعيل نظام حوكمة الجسم القضائيّ، ومن ضمن هذا إعطاء القاضي مهلة معينة للبتّ بأيّ قضية، ووضع معايير واضحة بالنسبة إلى ترفيع الدرجات كما وتخفيضه، وزيادة عدد القضاة والموظفين القضائيين. إضافة إلى ما سبق، يجب إقرار قانون جديد يقضي بعدم التفرقة العنصرية، للمقاربة فإنّ قانون عدم التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية كان له اليد الطولى في إنهاء الحرب الأهلية الأميركية، وما زال يلعب الدور الأكبر في نزع ايّ فتيل للفتنة في هذه الدول العظمى.
إنّ تفعيل دور السلطة القضائية كمرجع أخير للبتّ في جميع القضايا، لا يعني أبداً تسليم السلطة للقضاء بل إنّ الشعب يبقى مصدر السلطات، حيث يقوم ممثلي الشعب في مجلس النواب بسنّ القوانين ومحاسبة السلطة التنفيذية ويكون دور القضاء مُشرفاً على عمل مجلس.
بُـني نظام الحكم في لبنان على أساس وجود السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي سلطات مستقلة فتراقب بعضها بعضًا لتسيير أمور البلاد. هذا يعني وبشكل تلقائي، انّ أيّ اختلال في أيّ من هذه السلطات يؤدّي حتماً إلى شلل الحكم كما هو حاصل الآن. إنّ التذاكي الحاصل على نظام الحكم واختصار السلطات لا يبقي وطناً، كما ولا يخدم أيًّا من المتذاكين أنفسهم. المقارنة بين العيش في نظام سويّ ومنتظم والعيش في غابة الطائفية هو كالمقارنة بين العيش في شقة هادئة في منطقة تعجّ بالحياة والجمال والعيش في قصر في منطقة تفوح منها رائحة قذرة، وعلينا الاختيار.