أكثر ما يثير الاستغراب في تونس هو كيفيّة تحوّل الجدل السياسيّ إلى سجال مزاجيّ ينبني على النكاية بالطرف المقابل بدلاً من التأسيس والبناء والتطلّع إلى مستقبل البلد.
هذه الأزمة ظهرت بعد ثورة الياسمين، التي أريد لها أن تكون حركة مواطنيّة سلميّة، بالرغم من مجابهتها برصاص النظام آنذاك. لكن التونسيين ضربوا موعداً مع التاريخ من خلال تحلّيهم بالتحضّر، وتمسّكهم بمؤسّسات دولتهم، ودرئهم لأخطار الحرب الأهلية. وبالرغم من أزمات مسار التأسيس فإن الانحياز والتضادّ ظهرا جلياً عند ظهور ملامح الأطراف التي ستحكم تونس لمدّة سنوات؛ في الأساس حزب حركة النهضة ممثلاً للإسلام السياسيّ، وحزامه السياسي من أحزاب اليمين، التي تلتقي معه في الرؤية وطريقة بسط النفوذ على الحكم، والتي اختارت بمحض إرادتها الانقلاب على تطلّعات الثوار عندما هادنت النظام القديم واستعملت أساليبه.
*عودة السجال:
اليوم، عاد هذا السجال بحدّة أكبر بعد تداول الاختلافات حول تكييف إجراءات 25 جويلية – يوليو، التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيد، والتي أعادت ترتيب المشهد نحو هيمنة رئيس الدولة على كلّ السلطات، وارتباطها رأساً به، والمضيّ قدماً نحو دستور جديد للدولة.
هذا الدستور الجديد، الذي ولد مشوّهاً بنظر الكثيرين حتى من داخل حزام الرئيس - الاستشاريّ على الأقلّ - كان هو المحرّك الحقيقيّ لتأجيج الجدل حول أحقيّته بأن يكون النّص الأسمى الجديد لتونس بما يليق بتجربتها الديمقراطية الفتيّة، أو أن يكون مجرّد محاولة فرديّة أو مغامرة أقدم عليها الرئيس قيس سعيد، الذي لم يخفِ تمسّكه بها كفكرة منذ بداية ظهوره على الساحة السياسيّة.
الغريب في هذا المشهد المعقّد هو أنّ أغلب الرافضين لمشروع الدستور بنوا مواقفهم على قراءات أكاديميّة أو حتى على موقف سياسيّ من مشروع قيس سعيد برمّته، في حين جنح مساندو الدستور الجديد إلى التمسّك به نكاية بمنظومة ما قبل 25 جويلية - يوليو بأحزابها، وبما حملته كمرحلة سياسية كانت في مجملها مخيّبة للآمال. الغريب أيضاً أن كلّ الذين قالوا "نعم" لم يتوقعوا أن يصدر عن الرئيس نفسه تعبير "نعم، ولكن" التي ميّزت خطابه الأخير، حين أعلن فيه تعديله للنّص المقترح بحجّة تسرّب بعض الأخطاء.
هذا الحدث أيضاً استطاع أن يبعثر بعض القراءات التي راهنت على حُسن نوايا الرئيس، واعتبرت أن التعديل الذي قد يقدم عليه بإمكانه أن يرأب جملة التصدّعات التي مسّت النص الأول، الذي غاب عنه التنصيص على مدنيّة الدولة، والدور الاجتماعي للدولة، ومسؤوليتها أمام مواطنيها، من حيث الحريات والحقوق الأساسية، إضافة إلى كشف مبهمات النّصوص الخاصة بالسلطة التشريعية و"الوظيفة" القضائية والمحكمة الدستورية. وبالتالي، فإن تمسّك الرئيس بالنّص الأوّل، بالرّغم من تعديله، لا يُمكن إلا أن يُساهم في تصعيد مواقف الرفض التي أجمع عليها طيفٌ سياسيّ واسع، إضافة إلى كبرى المنظّمات الوطنيّة أساساً الاتحاد العام التونسي للشغل.
*الاستفتاء:
يمكن اعتبار هذا الاستفتاء منعرجاً تاريخياً مهمّاً في الحياة السياسيّة في تونس حيث يدلي التونسيون برأيهم بالنص الدستوريّ المقترح ليؤثث حياتهم لسنوات عدّة؛ لذلك يحرص كلّ طرف على حشد حججه لبيان موقفه ودفعه في داخل الفضاء العام للتأثير والنقاش. لكن أكثر ما يميّز هذا الاستفتاء هو تداخل المفاهيم لدى عامة التونسيين، وعدم قدرة أغلبهم على التفرقة بينه وبين الانتخابات التي اعتاد عليها التونسيون. كذلك يتميّز هذا الاستفتاء المرتقب بعدم ارتباطه بالمستقبل السياسيّ للرئيس قيس سعيد نفسه، الذي لم يعبّر بأيّ شكل من الأشكال عن خطوته المقبلة بصورة عدم توحّد التونسيين حول "نعم"، التي يبشّر بأن تكون إيجاباً للاستقرار السياسيّ والرخاء الاقتصادي والتحوّل النوعيّ في حياة التونسيين، وهو ما يعتبره كثيرون مغالطة كبرى من حيث تحميل نصّ الدستور ما لا يحتمل، وإخراجه بصورة النصّ الجامع والأوحد الذي سيصلح كلّ شيء.
ما يُميّز الاستفتاء أيضاً هو ضبابيّة الرؤية بشأن استكمال مسار التأسيس الذي وضع له قيس سعيد دون سواه خريطة طريق بصيغة الأمر الواقع، ممّا قد يدفعه إلى التراجع عنها بسبب صعوبة الالتزام بها، فضلاً عمّا يُميّز الاستحقاقات الانتخابيّة من تكاليف باهظة تبدو المحصّلة الاقتصادية أبعد ما يكون من اعتبارها أولويّات يُمكن مجابهتها.
*البديل عن حمى التضادّ
بالرّغم من توسّع قاعدة الرافضين لنصّ الدستور الجديد، ومراجعة الكثير من الأحزاب والمنظّمات لموقفها من تمشّي قيس سعيد، وعودتها بقراءة نقدية لإجراءات 25 جويلية - يوليو نفسها، فإنّ الشارع التونسي يجمع على ضرورة المضي قدماً في إصلاح حقيقيّ شامل يخرج البلد من المأزق السياسي الذي فاقم الأزمة الاقتصادية. هذا الإجماع يجب أن يتحوّل إلى خريطة طريق مبنيّة على حوار وطنيّ واسع، يطرح المشكلات الحقيقيّة لتونس من حيث التشخيص والبدائل التي تؤسّس لاستقرار سياسيّ، والخروج من دائرة الاستقطاب والتحشيد، التي امتدّت لتشمل كافة جوانب حياة التونسيين.
حقيقة هذه الصراعات أرهقت التونسيين، ولم تقتل فيهم تطلّعهم نحو الأفضل؛ وحتى أولئك الذين راهنوا على القبول بأيّ بديل يُتاح في الساحة لمجرد تجاوز الأزمة، اكتشفوا أن هذا الشعب يستبطن صبراً سحرياً يكتنزه لأعتى المراحل، ولا يظهر ساعة نفاذه حتى!