تمتدّ علاقتي باللغة العربيّة إلى ما قبل اكتشاف هواياتي وأفكاري ومعنويّاتي. ولأنّ علاقتي بهذه اللّغة كانت أعمق ممّا كانت المدرسة يومها تحاول القيام به، غيّرتُ عاداتي بأكملها وباتت هذه اللغة اليوم، من روتينيّاتي الصّباحيّة. لمَ الصّباحيّة؟ لأنّ شغفي لهذه المادّة التي لطالما اعتبرتها مُتعةً أيام المدرسة، كانت تُعطى في السّاعات الأخيرة من اليوم الدّراسي. وها أنا اليوم، أوّل ما أقوم به في الصّباح الباكر، هو الكتابة.
تخيّلوا معي المشهد، لو أنّ الطالب تعلّم الرّياضيات والعلوم واللغات الأجنبيّة صباحًا، لتبقى المادة العربية للوقت المتبقّي! والمُحزن، هو نظرة بعض الإدارات والمدارس إلى هذه الحصّة، على اعتبارها passe part tout، أي، تُستبدل هذه الحصّة بساعاتٍ إضافيّةٍ للرياضيات مثلأ، مع اقتراب الامتحانات الرسمية تحديدًا، أو للاحتفالات كعيد البربارة...
لن أنسى، يوم استغنينا عن حصّة اللغة العربية، لننزل إلى الملعب ونحتفل بعيد استقلال لبنان. حزنتُ كثيرًا يومها. الموضوع لا يتعلّق بالحفل، ولا بالأصحاب. الموضوع هو أنّ الاستقلال يبدأ بحبّنا وتعمّقنا بلغتنا الأم. هذا هو الاستقلال الحقيقي. لن تصدّقوا أنّني ومنذ ذاك الحين، وفي عيد الاستقلال تحديدًا، أقوم بكتابة شعرٍ أو مقالٍ أقدّمه لجريدتي لأشعر بالمُتعة التي كنتُ بحاجةٍ إليها يومذاك.
فاسمحوا لنا قليلًا، وغيّروا برامجكم التّربويّة ولتصبح حصّة اللغة العربية، في الصّباح الباكر ولتُقدّم للتلامذة بكلِ حبٍ ونشاطٍ.
ولأنّ اللغة العربيّة باتت جزءًا لا يتجزأ من شخصيّتي، اخترتُ مهنة الصّحافة وأصبحتُ أكتبُ يوميًا المقالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حتّى النّسويّة منها.
ليس سهلًا أن يقرر المرء أن يعمل في الكتابة، في مكانٍ غير آمنٍ نعيش فيه. أبسط العبارات لو استُخدمت في المكان الخطأ، كفيلةً لتدخلك السّجن، أمّا انتقاء العبارات فلها مكانها وزمانها.
اللغة العربيّة ترافقني في كلّ خطوةٍ أخطوها، حتّى عندما أتواصل مع أصدقائي وزملائي عبر تطبيق الواتساب، أعبّر عمّا في داخلي باللّغة العربيّة. هل يبدو ذلك غريبًا أن أستخدم اللغة العربية عبر الواتساب والفيسبوك؟ حتّى زوجي أحيانًا يقول لي لماذا تكتبين باللغة العربيّة طالما أنّ هنالك لغة أسهل وأسرع خاصّة بلغة الإنترنت؟
توضيحاتي وتبريراتي للجميع لم تعد راضية، حتّى الأمور التي أتكلّم عنها لم تعجب الجميع، ولكن، ما يُرضيني هو أنّني أقدّر بكلّ محبةٍ وايمانٍ هذه اللغة. وهذا اليوم، اليوم العالمي للغة العربية الواقع في 18 كانون الأول، يفتح لي الآفاق الجديدة والبدايات الشّيقة لأنه وبشكلٍ خاصّ أحتفل به قبل عيد مولدي بليلتين.
وفي حديثه للنّهار، يقول الأستاذ في اللّغة العربيّة جوني البيطار، إنّه لا شكّ في أنّ اللّغة العربيّة تهتزّ أمام رياح العولمة، وما تفرضه على الشّعوب من لغاتٍ حقّقت "إنجازاتٍ كبرى" في مجالاتٍ شتّى: تقنيّة، علميّة، اقتصاديّة. وما دامت التّكنولوجيا الحديثة الموجّهة باللّغة الإنكليزيّة تكتسح عصرنا؛ فانكفاء أجيالنا الصّاعدة عن اللّغة العربيّة، وانحيازهم إلى لغة التّطوّر بات مشروعًا! وخصوصًا أنّ الفكرة الضّاربة عميقًا في ذهن النّاشئة هي أنّ اللّغة الإنكليزيّة مفتاح الغد؛ بينما اللّغة العربيّة ليست سوى تكريس لماضٍ بعيد.
ويسأل: "ولكن ما سبب انعدام الثّقة باللّغة الأمّ؟ ولمَ يرفض الطّالب العربيّ أن يغرف من جمالاتها؟ لنعد خطوةً إلى الوراء، ونراقب الطّفل العربيّ الّذي يتلاغى بالعامّيّة، غير أن اللّغة المعتمدة في المدرسة، لكي يقرأ ويكتب، هي اللّغة العربيّة الفصحى! وللأهل رأي آخر في توجيه أطفالهم نحو لغة "متطوّرة" "تصنع منه إنسانًا عصريًّا!".
ويُتابع البيطار: "منذ صفوف الحضانة الأولى، نبدأ بتدريس الطّفل ثلاث لغاتٍ، مع تخفيف حصص تعليم اللّغة العربيّة، والإكثار من تداول اللّغات الأجنبيّة. لن نستكمل الغوص أكثر لتتبّع نموّ الطّالب العربيّ في مسيرته التّعلّميّة، ولكن أرى أنّه من الأجدى التّفكير في بعض من هذه التّساؤلات: مَن يصنع لغة الطّفل في عالمنا العربيّ؟ ومَن يُشرف على تكوينها ونموّها؟ ومَن يضع مناهج اللّغة العربيّة؟ ومَن يؤلّف الكتاب المدرسيّ؟ وقصص المطالعة؟".
ويختُم:" ربّما إذا توافرت الإجابات النّاجعة، نطمئنّ، أقلّه، إلى قيام جيل متطوّر إنسانيًّا بفضل القيم والأخلاق الّتي تبثّها لغتنا العربيّة".