بين مخالب الموت وجماجم الأحياء تتعالى أصواتنا
فيخرسها الظلام، وما الظلام سوى شبح أسود يلعن النور
لأنه لم يرث من أهله وأسلافه سوى العبودية.
ومن لم يرتفع صوته في الظلام
لن تقع كلماته على مسامع النور.
بين عبودية الظلام وهي تلعن سراج النور الذي تحمله،
وسراج نور يتذمر من يد حاملته،
تتعالى أصواتنا، تصرخ وتستنجد كأشباح غمرها الظلام:
" أنقذونا... وأنقذوا ما تبقى من أحلامنا ".
بين عداوة النور والظلام تتعالى أصواتنا كلغة غريبة
فلا يسمعها سوى الموت...
فتعود أدراجها خافتة، مخنوقة ومنهزمة.
بين أنياب القدر وصراع البقاء، ندنو من الموت بأقدام ثابتة،
فيرتجف الموت من أمامنا ويهرب بخطى متسارعة.
من جوف الأرض نصرخ ونتوسل، وتتعالى أصواتنا
كطيور تملأ الفضاء كما لو كانت تتصاعد من أعالي الجبال
التي يرقد تحت ثلجها البنفسج.
بين ألم الحياة ولذة الموت، تتعالى الأصوات وتمزق خيوط الظلام:
"لقد دُفنّا أحياء. أنقذونا".
ويتعالى صوت خافت تخنقه مؤامرة الجوع والبرد والعتمة:
" لا بد أنها نهايتي. عدوني بالاعتناء بعائلتي".
فيمر الموت من جانب الصوت ساخراً مبتسماً.
فيصفعه الصوت وهو عالق على عمق أمتار من تحت
ركام الأرض وثقل العناصر.
لم يكن هذا الصوت يعلم شيئاً عما يجري فوقه
ولم يكن باستطاعته سماع أصوات المنقذين،
لأنه كان ملقياً على ظهره، محاصراً، رأسه في الطين ورجلاه
ملتويتان على صدره، وكان البرد مهيمناً على ظلام دامس.
شعر باقتراب نهايته وشاع الذعر في نفسه
عندما بدأ جدار الطين الذي يسند عليه رأسه يميل وينهار.
وفي خلال ثوان سقطت على رأسه قطع من الطين تمازجها الأسلاك.
تملكه إذ ذاك هلع شنيع، فتمسك بخرطوم الهواء وأخذ يضغط عليه
لأنه حبل النجاة الوحيد المتبقي له. فإذ بمياه تتسرب منه
وتبلل بذلته. وإذ بالبرد يسارع في دنوّ أجَله.
لكن الإنسان الذي يواجه الموت يستعيد حياته من جديد.
وبدأت صور حياته تمر من أمامه في ثوان معدودة:
نشأته، وفاة والده وهو طفل، سنو التعاسة مع عائلة تبنته،
خوضه معترك العمل، لقاؤة مع زوجته وضحكات أطفاله.
فعاد إليه الأمل من جديد. وسمع صوتاً لا يعلم مصدره:
" ابقَ مكانك، لا تتحرك. سنحررك خلال دقائق معدودة".
أوشك الرجل أن يفقد الوعي وشعر بأن نهايته حتمية،
لكن صوتاً أقوى منه عاد ليقول: "ابقَ مكانك، سننقذك".
كانت لحظة حاسمة، هي اللحظة ما بين الموت والحياة.
وقبل أن يتلاشى الرجل ويدخل في غيبوبة، بدت كلماته كصلاة حارة:
"إنها نهايتي. عدوني بالاعتناء بعائلتي".
وانتصب شبح الموت أمامه وأخذ يتأمل به بعيونه الرمادية.
فأحس بسلام أفقده كل المخاوف.
ثم شعر بأنه يرتفع إلى فوق، إلى الأعلى، إلى النور.
وكلما ارتفع اشتدت أصوات الهتافات:
" حمداً لله. إنه على أحسن ما يرام".
وعندما فتح عينيه، رأى أمامه وجه ابنته الكبرى
التي صرخت في لهفة:
"أبي لقد صلّيت بكل جوارحي لكي ينقذك الله
ولقد استجاب الله لدعائي. شكرا لك يا الله".