يبدأ القاص الفلسطيني محمد حسين قصصه بجمل شاعرية يشعرنا خلالها أننا في واقع من نوع آخر. لكنه وبسرعة ينتقل الى وصف يوميات يبدو أننا نعرفها. تفاصيل واقع قاس بكل صعوباته الاجتماعية والسياسية، لكنه في الوقت نفسه يذكرنا أن هناك أفراداً كثيرين يلبسون "الطرابيش" لكي يخفوا حقيقتهم في هذا العالم.
تحضر المرأة بقوة، لكن تبقى تلك التفاصيل الصغيرة هي التي تجذبنا، تلك الحوارات التي تجعلنا ندخل في مداراتها ونحن نتوقع أن الواقع بطرابيشه الملونة سيمنعها من أن تحيا حياتها الخاصة. لكننا نتفاجأ أن النهايات مفتوحة على الأسئلة، حيث لا تفاصيل تغلق الباب على قصص الواقع المعتمة، بل هناك ضوء ما في نهاية النفق. يقول في نهاية قصة "ورقة تنتظر العبور": "سنواصل المشوار في هذا الطريق ونزرعه ورداً ليملأ عطره كأس الواقع القاسي".
ليس فقط الرجال من يلبسون الطرابيش، بل النساء أيضاً، هؤلاء أيضاً يضطررن إلى مغادرة هذا الواقع بطريقة مخادعة فيقول الكاتب في قصة "ذكريات مؤجلة":" لكنك أوقفت جنوني هذا عندما ركلت طربوشاً عند التقاء النهرين في مصب الفجيعة". فركل الطرابيش اذن مهمة ذلك الانسان الذي يحاول أن يكون صادقاً في هذا الواقع المخاتل. وفي لحظة مفاجئة ينهي القاص قصته بهذه الجملة:" يا ليتني ضغطت على الزناد في لحظة جنونية ودخلت عناوين الجرائد ليقرأها جميع الخائفين". وهنا تبدو تلك المحاولة الجريئة في مواجهة الواقع أكبر من من مجرد ركل للطرابيش بل مواجهة الخوف الذي يسكنهم في مجتمع خائف.
لكن الأحلام التي تغلف الواقع كبيرة رغم تلك العتمة، فها هي صاحبة قلم الرصاص تدخل في الأزمنة والأمكنة بسبب قلمها. فتدخل في سحر يتحدّى الواقع، فهناك حوارات مسائية مع الضوء لتسأله الفتاة: لماذا لا تقبل بأنصاف الحلول أيها الضوء الناهض من خطوط الجرح؟
لا يقدّم الكاتب إجابات على الأسئلة، بل يتركها تلوح أمامنا كقناديل. إنّها هنا كي تكثف الأحداث وتجعل القصة أكثر فنية. هكذا نرى الشخصيات النسائية تضيء الأحداث بحواراتها وأسئلتها فتتركنا ندخل تلك الحوارات برشاقة ونخرج منها بإجاباتنا الخاصة.
هناك ضرورة أيضاً للكثافة، فلا تزيد القصة أحياناً عن صفحة واحدة، فيبدو الحدث الأهم فيها مختصراً ببعض الجمل. هي طاقة جميلة لجعل القصص تقول ما بداخلها بأقلّ عدد من الكلمات، وكأنّنا هنا لا نعيش كلّ زوايا هذا الواقع، بل بعض ما يخفى منه، ربما في الجزء الذي لا نراه ولا نلمسه. يحاول الكاتب أيضاً أن يجعلنا نتقصّى ذلك الواقع بازدواجيته في لحظات قصيرة منه دون أن يرهقنا أو يجعلنا نملّ. انّه يجعلنا نطلّ عليه من نافذة أخرى مغايرة. فندركه ونحن نسأل أسئلته المختلفة ونقول لأنفسنا: أما آن لأصحاب هذه الطرابيش أن تخلعها؟ أو نسأل: أما آن لهؤلاء أن يستمعوا إلى قلوبهم وأرواحهم؟
مدارات امرأة، مجموعة قصصية تحاول أن تشتبك أسئلتها مع أسئلة الواقع، أن تضيء بجملها الشعرية زوايا معتمة منه. وأن تجعل من تلك اللحظات الهاربة فيه محطات للتأمل في معانيه. انّه يحرّض بطريقته تلك المرأة على الكتابة على صدر الليل، فربما ينهض في وسط تلك العتمة قمر واضح يستطيع أن يحاور الروح. فرغم حضور المجاز، لكنّ البلاغة لا تجعل طريق الأشياء اليوميّ مبهماً وغامضاً، بل واضحاً وصريحاً. لعلّ انتقال الكاتب من المجازات الى ذلك الوضوح هو جزء من فنية الكتابة لديه، وكأنّه يحاول أن يقول إنّ الواقع سحريّ رغم كلّ شيء والأشياء رغم غموضها واضحة جداً...