من يد الزمان القابضة على أعناق البشر
العاصبة عيونهم عن وجه الحق، المكبلة أياديهم عن فعل الخير
الغالقة أفواههم عن قول الحقيقة، العالقة في المتاهات، الغافلة عن المنعطفات،
أجيال مظلمة تسير في مسيرة حزن وكآبة، كالصم لا يسمعون نداء الحرية.
هم يسيرون ومنجل الموت يحصد أرواحهم السائرة في ضوء الشمس.
ومن لم يحصده منجل الموت، سار هازئاً بالعواصف والأعاصير.
من هزيمة الأعداء ومن وراء النظرات القائمة مقام النطق،
من غضب العناصر ومن وراء الأحزان المرسومة في العينين،
بركان ثائر لا تهدأ ثورته حتى تصل فلذات كبده الى بر الأمان.
من يد الله المرتفعة فوق هضاب الدهور، وفوق عروش سلاطين العالم،
انبثق بلسم لكل الجراح في اناء صنعته أنامل سحرية.
من هذه الأجيال المظلمة، ومن أحلامها المزعجة، ومن فقدان العدل،
سهم منطلق لا تصده الحواجز ولا تعيقه العقبات.
فإن أخطأ السهم، أنتج أجيالاً مظلمة وإن أصاب السهم، ابتدع أجيالاً مضيئة.
فهي وحدها التي تصنع الرجال أخيارهم وأشرارهم.
ومن ولدت مجرماً أو ظالماً أو خائناً أو عربيداً، لا نظنها أماً.
وفي كل بحث عن دوافع الخير أو الشر، نجد أن الأم مرجعه.
فمن أوجد ويوجد العظماء في كل جيل غير الأم؟
نبوغ أديسون يعود الى أمه، وإسحق نيوتن الذي كان أعظم علماء
الفيزياء والرياضيات في عصره، كذلك الملك العظيم القديس لويس
الذي قالت له أمه يوماً:
"يا لويس.. أحبّ إليّ أن أشاهدك جثة باردة من أن أراك ترتكب الإثم."
وعندما سئل ابراهيم لنكولن محرّر العبيد في أميركا
عن أعظم كتاب قرأه، قال:"أمي". ونحن لو سألنا أحد المجرمين
السؤال نفسه، لما تردد عن الجواب بقوله: "أمي".
انّ فضل الأم هي سماء على الأرض وتأثيرها أرض على السماء.
وبين الأرض والسماء يد الله منبسطة.
فالحب والجمال عند السلطعون هو سلطعونته، وعند الطفل هو أمه.
حبها هو الباقي! فما أشبهها بالحرية تنادينا الى لقائها على دروب الحياة
فنأتيها وأيادينا فارغة ونتركها وأيادينا ممتلئة كي نكون للحياة قولاً وفعلاً.
فالأم وان كتبت لها الأيام فقراً، تلبس ابنها رداء الملك.
فيستمدّ من حرارة حبها وألم شقائها دقائق الحياة الذهبية.
والأم التي لا تملك سوى الدموع، تعمّد طفلها بالدموع السخية.
فهي كالشتاء المنعشة تحيي الزرع، زرع آمال أبنائها،
ومن بذورها التعسة ستنبت جنائنهم المثمرة.
والأم وان كانت تتضور عطشاً، لن تحرم ابنها الماء
كما فعلت أنثى الكنغر في يوم قائظ، وقد حملت صغيرها في جيب بطنها،
وأخذت تتقدم بحذر نحو اناء الماء الموضوع وسط الحديقة.
وعندما رآها صاحب البيت، رفع بندقيته وصوبها نحوها.
فتوقفت حين أصبحت في مواجهة صاحب البيت، ونظرت اليه
بعينين ضارعتين كمسكن الصلوات الساكتة.
فظل سلاحه في يده بدون أن يقوى على إطلاقه.
فتقدمت ببطء صوب اناء الماء وعيناها الضارعتان
لا تزالان مصوبتين الى السلاح المسدّد اليها.
وتدلى الصغير من جيبها، فشرب من الماء حتى ارتوى
ثم عاد الى جيب أمه آمنا. واستدارت الأم دون أن تشرب قطرة ماء.
وعادت الى الغابة عطشى كما أقبلت. ولكنها كانت سعيدة للغاية
وراضية تماماً بعد أن ارتوى صغيرها.
هذه هي الأم وهذا هو قلبها المنزّه عن الأنانية.
فاحفظ يا ربي أمهاتنا وارحم الأموات منهنّ.
وللأم التي قالت لي عندما ولدت: "شكراً لقد جعلت يومي سعيداً"،
أقول لها اليوم: "شكراً أمي، لقد جعلت حياتي كلها سعيدة!
أنت أول من علمني أبجدية الشجاعة، وابتسامتك هي بركة من السماء".