تتعايش البلاد مع واقع اقتصاديّ يُضفي بظلاله على كرامة اللبنانيين, ويضمحل في كنفه أي أمل في إصلاح مرتقب، وسط مقرّرين أحاديين للتخريب ولمحو آثاره. إنّه نهج أحادي يتخلّل خطابات السياسيين بترسيخ العلاقة الوثيقة بين الاتفاق مع الصندوق والبنك الدوليين والإصلاح الشامل المحتم. فهل ينخدع الرأي العام بالحملة المتمادية في توصيف ماهية الخلاص؟
إن انعدام ثقة المجتمع الدولي بالمنظومة السياسية كان السبب الأساسي في اشتراط عقد الاتفاق مع صندوق النقد حال قيام الدولة اللبنانية بجملة إصلاحات تضع البلاد على سكّة سليمة، تأميناً للاستقرار المالي على المدى الطويل.
تشمل توصيات صندوق النقد الدولي نقاطاً، أهمها:
- معالجة مباشرة للمشكلة الجوهرية المتعلّقة بضعف الحوكمة: يجب أن تتمحور الإصلاحات الداعمة للشفافية حول تعزيز إطار مكافحة الفساد وتحسين أداء المؤسسات المملوكة للدولة، لا سيما في قطاع الطاقة. وينبغي أن يشمل هذا إجراء عمليات تدقيق لحسابات مصرف لبنان والشركة المعنية بتقديم إمدادات الكهرباء.
- تنفيذ استراتيجية للمالية العامة تجمع بين إعادة الهيكلة العميقة للدين وإجراء إصلاحات تعيد المصداقية، وتحقق الوضوح الكافي للتنبؤ بالمسار، وتكفل شفافية إطار المالية العامة، مع توسيع شبكة الأمان الاجتماعي الضرورية لحماية الفئات الأشدّ ضعفاً.
- إجراء إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي، تبدأ بالاعتراف مقدّماً بخسائر البنوك الخاصّة ومصرف لبنان، مع مراعاة تأمين الحماية لصغار المودعين.
- إرساء نظام موثوق للنقد والصّرف، يرتكز على توحيد أسعار الصرف المتعدّدة، وتصاحبه قيود رسمية موقتة على رأس المال.
يقول الاقتصادي الأميركي، جوزف ستيجلز، إنّ «الإصلاحات الاقتصادية، التي يطلبها صندوق النقد كشروط ليُقدّم القروض، تسبّبت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية للاقتصادات ومُدمّرة للسكان».
فقد وافق صندوق النقد، في آب 2016، على منح الأردن قرضاً بقيمة 723 مليون دولار على ثلاث سنوا،. إلا أنّه لم يكن القرض الأول، ولا التجربة «الفاشلة» الأولى. فمنذ الـ2012، لم تنجح القروض في خفض الدين الحكومي في الأردن، على الرغم من تشديد الإجراءات التقشفية. وحتى في 2017، بعد سنة من بدء البرنامج الجديد، قال مدير إدارة التواصل في صندوق النقد جيري رايس إنّه من أجل إنهاء الزيادة السريعة في الدين العام، يجب توسيع القاعدة الضريبية كجزء من إصلاح الإيرادات.
يصرح ساروج كومار جاه، المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي، بأنه "وعلى الرغم من التحذيرات المبكرة، أضاع لبنان وقتاً ثميناً، والعديد من الفرص لتبنِّي مسار لإصلاح نظامه الاقتصادي والمالي. إن تكاليف التقاعس والتلكؤ هائلة، ليس فقط على الحياة اليومية للمواطنين، وإنما أيضاً على مستقبل الشعب اللبناني. وبعد مرور عامين ونصف على الأزمة، لم يشرع لبنان حتى هذا التاريخ في تطبيق برنامج شامل للإصلاح والتعافي يحول دون انزلاق البلاد إلى مزيد من الغرق. وينطوي استمرار التأخير المتعمد في معالجة أسباب الأزمة على تهديد ليس على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فحسب، وإنما على خطر إخفاق منهجيّ لمؤسسات الدولة وتعريض السلم الاجتماعي الهشّ لمزيد من الضغوط".
إنَّ المعوقات الرئيسية للتنمية في لبنان التي تمّ تحديدها في الدراسة التشخيصية المنهجية الخاصة بلبنان لا تزال قائمة، وهي استيلاء النخبة على السلطة تحت ستار الطائفية، والتعرض للصراع والعنف. وقد أوجدت هذه المعوقات نظاماً سياسياً هشّاً قاصراً، ودولة عاجزة عن عزل الصراع السياسي عن قدراتها للحكم وممارسة السلطة. وتُجسِّد إدارة الأزمات إلى أيّ مدى تآكلت قدرات نظم الحوكمة الرشيدة، وكذلك الشلل السياسي الذي أوجدته هيمنة النخبة. وفي هذا السياق، يستند تقرير مراجعة الأداء والدروس المستفادة إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة يمكن من خلالها أن تنشأ تسوية سياسية جديدة، وهي الجمود السياسي، والحدّ الأدنى من التوافق في الآراء، والتحول السياسي.
يطالب البنك الدولي بتوزيع الخسائر المالية بشكل منصف ممّا يعني عدم تحميل المودعين أيّ خسائر، لأن لا ذنب لهم، حيث إن المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية هم المذنبون.
لن يتحقق الخلاص باتفاق الدولة اللبنانية مع صندوق النقد أو البنك الدولي، فالنماذج السابقة لا تشجع التجربة المرتقبة. لكننا نعي تماماً أن المساندة المالية، وإن حصلت، ستوسّع مروحة المساعدات الدولية عبر إعادة الثقة تدريجاً. لكنها لن تحل الأزمة القائمة جذرياً، والأهم أن توظف القروض، إن منحت، في مشاريع استثمارية لتحسن الاقتصاد الوطني على مراحل.
لكن إلى أيّ حدّ نثق بمقرّري الأزمة وأربابها كي ينتشلوا البلاد ويؤمّنوا السكّة السليمة للمضي قدماً؟