لعلَّ ما يميّز الكتّاب الكبار الذين تدرّجوا في ساحات الأدب القضائي - أمثال فيكتور هوغو الذي درس الحقوق ودعا لإلغاء حكم الإعدام من خلال رواية "آخر يوم لمحكوم عليه بالإعدام"، ويوهان غوته الذي تأثّر من خلال عمله في المحاماة بالمنطق والعقل، فانعكس وبرز نوره في سماء الأدب والشعر- هو أنّ هنالك نشوة من الاعتزاز المحتدم في نفوسهم لأنّهم يعثرون على معنى الحياة من خلال خدمة الشعب والجمهور عن طريق إبعاد شبح الانكفاء والاندفاع عن النفوس المضطرمة بنار الشهوة والخطيئة، لأنّ إيمانهم بأنّ مواريث الفكر ترتكز على مبادئ الإنسانيّة والقيم الثابتة ووجوه الضنك والانفراج، والرضا والاحتجاج، وكلّ منهم يعبّر عن رأيه من عمق رؤيته وخبرته المستمدّة من منابع الخير والشر.
في مجموعة قصصه القصيرة التي توزّعت على عدد من الكتب منها "حكايات قضائيّة" و"يوميّات وكيل نيابة" و"لحظة انهيار"، يعيد الكاتب المستشار بهاء الدين المري ترتيب أوراقه، وتجنّب مداولتها على أساس العقل فقط كما يفعل في أروقة المحاكم وبين نظرات الجاني والمجني عليه، في زمنٍ قويت عدّةُ الشرور فيه وانتابه مجون التمرّد الذي أصبح في آذان المهتدين والموعوظين وقراً، يقيمون له المتاريس والحصون.
الفضيلة كانت في نفوسهم نعتٌ للهمج الرّعاع، فقد تناسوا بأنّ الإنسان متورّعٌ في ضميره، فانساقوا لحثالة الموقف، وأقدموا على فعلٍ يزجره الله والقانون، فاستصغروا قدرهم واختاروا حتفهم بأيديهم.
في قصّة "حكاية اتلهي" يروي المري طرفة من الطرائف القضائيّة التي يستخدمها المحامون في أساليب مهنتهم لتطويعها بشكلٍ انسيابيّ يلائم مرامهم، فيحكي عن مكرم عبيد باشا الذي كان من نجوم المحاماة في مصر لما امتاز به من حسّه الفكاهيّ وبديهته الحاضرة، عندما كان يترافع عن متّهم في قضيّة قتل بمدينة قنا، وبينما كان منهمكاً في مرافعته يعمل فيها بصلابة وإيمان ليفنّد دافع القتل وحدوثه، اعترضه عضو النيابة في الجلسة فرفض رئيس المحكمة هذا الاعتراض، فعاد الباشا لينخرط في الدفاع عن موكّله بحماسة وتدليل، وما لبث أن قاطعه الآخر مجدّداً قائلاً بأنّ كلامه لم يرد في تقرير الطبيب الشرعي، فما كان من الباشا إلا أن قال له وهو يتمزّق غيظاً: "اتلِهِ، وتعدّ هذه الكلمة إساءة لفظيّة في لغة التعبير المصريّة، فانتفض عضو النيابة ثائراً يشكو للقاضي ما بدر في حقّه من اللفظ المتدنّي، ليجد الباشا مخرجاً سريعاً له من هذه الورطة فيقول: "إني أطلب منك يا سيّدي أن تتلو ما بيدك، اتله، أي اقرأه علينا" لتضجّ القاعة بالضحك لهذه التورية.
في قصّة "حلم ومشنقة" يسهب المري في وصف شابّ أصابه شقاء، جلبته إليه البطالة والعربدة والتسكّع خالي الوفاض من المال والقوّة في الشوارع رغم نيله شهادة تعليميّة عالية. وقد عقد العزم على النزوح إلى قرية سياحيّة للعمل فيها، ولم تعجبه أيٌّ من الأشغال التي عُرضت عليه، فقد كان طموحه متوقّداً عارماً، فلزم حلمه ملازمة الظلام للنّور والخير للشرور، حتّى صادف ذات يوم رجل أعمال ثريّ عرض عليه العمل معه ونقله من عالم الركود إلى دنيا تحفّ بالخيرات يتجاذبها ويتدافعها الرّزق الوفير، فتغيّرت حاله للنّعمة التي لا تستنكف من اختيارها من تشاء مسكناً لها، ولكنّه ردَّ الجميل بالمنكر، وتعامى عن إتيان الفضيلة بصاحب هذا الفضل عليه، فغدر به وبطش، وطعنه في ساحة جريمة نكراء خطّط لها طمعاً في سرقة أمواله جميعها، وحكم عليه بالإعدام.
الأديب المستشار علاء المرّي ينهل من غُدران العدل ساعياً لتطبيقه وتعميمه، ويغرف من مناهل لا يستهين بها الواردون، ليبلغ ذروة معاقل الإنسانيّة التي يحلم بها من دون أن يراها تتحقّق في الأرض، ولكنّه يؤثر القضاء على التّعبير الكتابّي والأدبيّ، فنراه ينتهج سبل التحليل القانوني أكثر من الغوص الوجدانيّ في أداء الأمانة، ويمقت من يستغفل بالمكيدة الآخرين فيقدم على الإتيان بالفعل المشين والجرم المعلن، ويلجأ إلى تمزيق الحجب عن النفوس البشريّة الحافلة بالأحقاد والأسرار، ليكشف ما انطوى في جوانحها من قوى كيانيّة ومشاعر عاطفيّة، ومن الحيف أن يكتشف أمر الذين أوتوا الخير فأزعموا الشر.
لهذا، يأتي أسلوبه الأدبيّ مفتقراً إلى المقاييس الأدبيّة الشاملة، ويزخر بالبلاغة والانصياع للمنطق، ويرى القلوب العرضة للأقذار الإنسانيّة متحجّرة تستدعي القسوة، وهنا يختلف رأيه مع فيكتور هوغو الذي هاجم مبدأ الشنق بقوّة...
يلعب الدّين دوراً أساسيّاً في توجيه أفكار بهاء المري، والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، ولكنّ دوره البارز والحاسم في محاكمة قاتل "نيرة أشرف" الجريمة التي ضجّت بها مصر عكس توجّهاً ورغبة منه في تغيير كينونة المجتمع الحالي، فوعظ وتمادى في الوعظ فارضاً خيال الأدب على واقعيّة القضاء، ولكنّه امتثل أخيراً لحكم الإعدام لأنّه رأى فيه الوجهة السليمة للحدّ من تدفّق الرذيلة إلى خلايا المجتمع.