الخميس - 19 أيلول 2024
close menu

إعلان

زيارة خاّصة

المصدر: النهار - بسكال لوقا
زيارة خاّصة في المهجر لذكريات بنيناها سيسجّلها تاريخ غير تاريخنا
زيارة خاّصة في المهجر لذكريات بنيناها سيسجّلها تاريخ غير تاريخنا
A+ A-
زيارة خاّصة في المهجر لذكريات بنيناها سيسجّلها تاريخ غير تاريخنا، بعد أن تركنا ذكرياتنا في الوطن تنتظر رجوعنا الذي تحلم به، والذي وعدناها به كما الوعود الواهمة في الوطن، تنتظر رجوعنا كما انتظروها أهلنا والذين ذهبوا في غيابنا والآمال معلّقة برؤيتنا، وهذا الغياب ذاقه الكثير الكثير من الناس في بلادنا، نعلّل القلب بالنجاح في تواريخ أخرى لمساعدة تاريخنا الأم، ونعمل نحن ليرتاح هو، ولكنّ الوقت يطول والزمن لا يرحم، فنجد أنفسنا خسرنا تاريخنا (أهلنا) الذي خطفه الموت وخسرنا الوعد الذي خانه الوقت.
أعود إلى زيارتي الخاصّة وإلى تاريخي الجديد المطعّم بمرارة الوطن وعُقد استحوذت علينا على مدى الحرب اللبنانية، فطبعت كلّ خياراتنا الحالية والمستقبلية وما زالت تكبّلنا.
في هذا اليوم استيقظت وفي قلبي غصّة وكأنّه يدري مسبّقاً القرار النهائي. ارتديت من الثياب أخفّها رغم برودة الطقس معلّلة نفسي بحرارة الشمس التي تنتظرني حيث قرّرت الذّهاب. خرجت من البيت وسرت في طريقي إلى الزيارة.
مشيت وشمس الصباح تلفحني لتدفئ جسدي المتهادي، وبدأت زيارتي، لا أدري من أين أبدأ.
زيارتي لا تقصد أصدقاء أو أهل ولا معارف بل زيارتي توجّهت نحو ذكرياتي.
زرت ذكرياتي على طول الرصيف البحري وسبحت في خيالي وكأنّي أعيشها من جديد. هنا كنّا نجلس وحدنا في هذا المقهى (الذي لم يعد مقهى)، نحتسي القهوة مع فطور الصباح، هنا كنّا نسبح في هذه المنطقة بالذات وعلا الصراخ في أذنيّ. صراخ الناس السعيدة في اللعب وفي السباحة. ضحكات طفلتيّ وهما تلتهيان في اللعب بالرمال، ثمّ بالركض نحو المياه وأعيننا تراقبهما لترعاهما.
هنا كانت مناشفنا تستقبل أجسادنا المبللة وتلتصق ببعضها لتقول أشعر بالأمان في ظلّ عائلة جميلة لم تدم سعاتها.
هنا تنزّهنا في المساء وطفلتانا أمامنا تمشيان وتراقبان الناس والبائعين وتشدّ أنظارهما الحلى المصنوعة بطرق وألوان عدّة، وتركضان أمامنا تستعجلانا للوصول إلى محلّ بائع "البوظة" مسرورتين عند حصولهما عليها.
هنا كنّا نُطعم السناجب بعض حبّات الفستق عبيد، والأرزّ للعصافير. كانت السعادة تسكن في عينَي طفلتينا.
هنا كنّا نصطاد السمك بقصب الصيد القديمة، أحسست بمتعة غربية تجتاحني وأنا أعيش تلك الذكريات لأستفيق بعدها من خيالي وأعود إلى الحقيقة والوضع الذي لم أختره بل فُرضَ عليَّ.
وأيقنت عندها بأنّ عليَّ أن أكتفي بسدل الرمال عليها وطمرها كما يُطمر الميت، لأنّ الحياة توقّفت بالنسبة إليه.
كأنّ زيارتي هذه كان لها هدف وهو طمر ذكريات لم تعد تتنفّس، وعليّ طمرها إلى غير رجعة.
أسدلت الرمال لمرّة ثانية على ذكريات أعرف بأنّه لا يمكن الرجوع إليها، عكس المرّة الأولى التي كنت أحلم بالعودة إليها.
كنت سعيدة وحزينة في استعادتها.
غداً سأتركها إلى غير رجعة، نحن لم نعد نحن، تغيّرنا مع تغيير الأسماء، هو اختار اسماً آخرَ، والطفلتان أصبحتا امرأتين.
هما سيتذكّرانها حتماً أو ستعودان من وقت إلى آخر إلى خيالهما من خلال أطفالهما.
أمّا بالنسبة إليّ فالصفحة طُويت طوعاً أو غصباً ولكنّها طُويت.
سأتذكّرها من وقت إلى آخر حيث لا يمكن النسيان، وداعاً ذكرياتي.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم