زرت في ثمانينيات القرن العشرين دولة أوروبية شرقية، ومكثت في شقة خاصة قرابة الشهرين، وغالباً ما كان يدعوني جاري المواطن إلى زيارته ليلاً، فنتداول أطراف الحديث حول مواضيع عديدة!
أخبرني أن دولته تضمنه صحيّاً هو وجميع عائلته من دون مقابل، بالإضافة إلى التعليم المجانيّ في جميع المراحل، وتؤمّن وسائل تنقل عديدة، من المترو والحافلات، والقطارات بتكلفة زهيدة، وبدلاً مالياً شهرياً للعيش الكريم مع عائلته، لو توقف عن العمل قسراً، لأسباب صحيّة، أو إنتاجية!
لفت انتباهي توقه إلى المشروبات الغازية الغربية، والدولار الأميركي، والحصول على جواز سفر للعيش في دول أوروبا الغربية!
لم أوافقه آراءه هذه، لأنني كنت أفتقد - ولم أزال لتاريخه - كلّ هذه التسهيلات والتقديمات، في بلدي لبنان، وعدم القدرة على العيش الكريم الدائم، كذلك!
أصرّ أنّه يفضل نمط حياتي حتى لو كان صعباً، لأنّني أتمتع بحريّة التنقل والسّفر، التي يفتقدها هو منذ ولادته!
أدركت منذئذ أنه لا يمكن أن يحيا البشر بمعزل عن الحرية، والقيم، والطموح، والجموح نحو المجهول!
أما أخيراً، فإنني أدركت أنّ البشر لا يمكن أيضاً أن يعيشوا في "فوضى الحرية المطلقة"، أي شريعة الغاب، كما هو حاصل في لبنان، طوال السنوات الثلاث الأخيرة، بمعزل عن نظام عام عادل حرّ، له ضوابط، وشروط، حفاظاً على القيم، والأخلاق، والقوانين، وحقوق الآخرين!
كيف يُمكن أن يعيش قوم في بيئة واحدة من دون الالتزام بجميع القوانين، أو الرضوخ لها قسراً في ما لو أقتضت السلامة العامة ذلك، ويرضخون إلى جبروت الدولار الأسود راضين، مرضيّين، فيسود الغلاء، وبالتالي الجوع، بين المخلوقات البشرية العظمى، ويطغى ظلم واستغلال الجشعين والطامعين على مصائر الضعفاء، والمرضى، والمعوزين، والفقراء، والعاطلين عن العمل!
كيف يعقل أن لا يعمل أطباء لبنان على تشكيل جمعيات على شاكلة "أطباء بلا نقود" ويقومون بتقديم العلاجات والاستشارات المجانية لبضعة ساعات أسبوعياً في عياداتهم، وفي المشافي!
كيف يصحّ بقاء وزارة الأشغال العامة والنقل من دون تأمين النقل العام المشترك الرخيص على مساحة الوطن! أو بقاء وزارة صحة عامة تحمي مستوردي الأدوية بمنصّة للسلب والنهب والسرقة! أو بقاء مجلس نواب فاشل! وبقاء قصور لا تتحوّل إلى دور للعجزة!
ما زلت أفضّل حريّتي على تسوّل معيشتي، أو العيش في ظلّ نظام استبدادي ظالم، لكنني، كما الكثيرون في لبنان، لن نرضى أن يتسلّط علينا سوقة، وحثالة، وأوباش، ومجرمون، وأمراء حرب!