تتصدر ظاهرة هجرة الكفاءات والخبرات لائحة التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الدول النامية. وتكتسب أهمية قصوى في لبنان نظراً إلى تزايد عدد المهاجرين، خصوصاً أصحاب الكفاءات العلمية والتقنية لما لها من آثار سلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتماسك النسيج الاجتماعي اللبناني.
تعتبر الكفاءات والخبرات البشرية اليوم ثروة توازي أهمية الثروات الطبيعية، إن لم تكن أهمّها، خصوصاً في عالم يرتكز على اقتصاد المعلومات كما هو عالمنا اليوم، عالم الكوكبة. لذلك فإن هجرة هذه الكفاءات والخبرات البشرية تعتبر "نزف أدمغة" أو "هجرة أدمغة" للبلد المنشأ، و"كسب أدمغة" للبلد المستقطب. ولقد أثبتت هجرة الأدمغة أنها مسهّلة للتنمية والمنافسة في الدول المستقطبة، وعائق للتنمية المستدامة في دول المنشأ. وعليه، فإنه إذا ما استمرت هذه الهجرة على وتيرتها التصاعدية، فإن دول المنشأ التي هي في معظمها دول نامية، لن تستطيع بلوغ أهدافها في تحقيق التنمية المستدامة أو المنافسة في الأسواق العالمية.
إن معضلة هجرة الأدمغة التي عايَشها لبنان منذ القدم، والتي أصبحت قدَراً لا مفرّ منه اليوم مع استفحال الأزمة، تطرقت إليها مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، التي اعتبرت أن المهنيين الذين يقدمون الخدمات الأساسية، مثل: الأطباء، والممرضات، والمهندسين، وكذلك الأكاديميون ورجال الأعمال، هم أول من سيترك لبنان.
ونقلت عن اقتصاديين قولهم "على الرغم من شح البيانات، فإن الاتجاهات مقلقة. في تقييم أُجري في شهر كانون الأول 2020، حذر البنك الدولي من أن هجرة الأدمغة أصبحت خياراً يائساً بشكلٍ متزايد في لبنان، إذ تُصنف أزمته الاقتصادية من بين أكبر ثلاث أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. كما ذكر البنك الدولي في حزيران المنصرم ما يأتي: سيكون للتدهور الحادّ في الخدمات الأساسية تداعيات طويلة الأمد، بما في ذلك الهجرة الجماعيّة. وسيكون من الصعب للغاية إصلاح الضرر الدائم الذي يلحق برأس المال البشريّ. ولعلّ هذا البعد من الأزمة اللبنانية يجعل الحلقة اللبنانية فريدة من نوعها مقارنة بأزمات عالمية أخرى".
وفي مذكرة للأمانة العامة للاتحاد البرلماني العربي الصادرة في كانون الأول في العام 2001، ورد ما مضمونه أن الدول العربية تساهم في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50% من الأطباء و23 % من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرّجة يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوروبا، وأن ثمة 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج ولا يعودون إلى بلدانهم.
وفي السياق ذاته، يقول خبراء للمجلة الأميركية إن الطفرة الحالية في هجرة العقول ستكون ذات تأثير دائم على بلد يعاني من عدد كبير من الأزمات، مضيفين أن هروب رأس المال البشريّ سيؤدي إلى تفاقم انهيار الاقتصاد المنهك بالفعل ويعيق انتعاشه. ولعلّ الأخطر من ذلك كلّه، كان كشف المجلة عن استطلاع أظهر رغبة 77 في المئة من الشباب اللبناني في الخروج من بلدهم. وهكذا، يتصدر الشبان اللبنانيون الشباب العربي بالرغبة في الهروب من بلادهم، متقدّمين على 54 في المئة من الشبان في سوريا المنكوبة بالحرب، و58 في المئة من الشبان الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وتكمل "فورين بوليسي" بعرض أرقامها المخيفة عن هجرة الأدمغة، وتشير إلى أن 20 في المئة من الأطباء اللبنانيين غادروا، أو يخططون لمغادرة البلاد، منذ الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان في العام 2019. يترافق ذلك مع إغلاق مئات الصيدليّات أبوابها؛ ممّا جعل الصيادلة عاطلين عن العمل، فيما يتواصل النزوح الجماعي المستمرّ لموظفّي الرعاية الصحيّة، كالعاملين في القطاع التمريضيّ، الذين اجتذبت المئات منهم دول الخليج.
وبالحديث عن الواقع الاستشفائي المنهك، نقلت المجلة عن ريتا الحويك، الاختصاصيّة في العلاج الطبيعي، قولها إنّها شهدت عشرات الاستقالات في المستشفى، حيث تعمل، في مدينة طرابلس الشمالية، مضيفةً القول: "ذهبوا إلى السعودية، وقطر، وكندا، وأي مكان استطاعوا الهروب إليه، إذ يجب عليهم إرسال الأموال إلى ذويهم في الوطن".
تفتقر أدبيات الهجرة ككلّ، وهجرة الأدمغة في لبنان خاصّة، إلى بحوث إمبريقية Empiricism (وهو بحث باستخدام الفلسفة التجربية التي تؤمن بأن معرفة الإنسان تستند إلى الحواس والخبرة والتجارب العملية) لتقوّم حجم هذه الهجرة، خصوصاً هجرة الأدمغة منها، وتكلفتها على المجتمع اللبناني لجهة مواطن الضعف والقوة وتأثيرها على الصعيد الخاص، لأن البحوث الحالية تقتصر على دراسة حالة في قطاع معيّن، وبشكل محدود، معتمدة على منهجيّة التوصيف المبنيّة على شواهد قصصيّة. ويعتري الدراسات الحالية قصور منهجيّ، يتمثل بالنقص الحادّ في الإحصاءات المنشورة كما في التقديرات المعلنة حول عدد المهاجرين اللبنانيين من أصحاب الأدمغة والكفاءات العالية وتكوينهم. جلّ ما نعرفه عن حجم الهجرة ككلّ هو أنها وصلت إلى 900.000 مهاجر بين العامين 1975 و2000 بحسب دراستين منشورتين، الأولى للدكتور أنيس أبي فرح من الجامعة اللبنانية، والتي نشرها في العام 2001، والثانية للسيدة شوهيغ كسباريان من جامعة القديس يوسف، والتي نشرت في العام 2003.
ليس هناك من سبب واحد لهجرة الأدمغة من لبنان، بل هي نتيجة تفاعل عدّة عناصر ومسبّبات، على رأسها الأوضاع الأمنية والسياسية، خصوصاً تلك التي لحقت بلبنان في السنوات الـسبع والأربعين المنصرمة، والتي انعكست بدورها على الاقتصاد والاستثمار والتنمية المستدامة، وعلى خلق فرص عمل جديدة تتماشى مع التحصيل العلمي الحديث، وتواكب التطور التكنولوجي العالمي. كذلك هناك أسباب مهنية مبنيّة في مجملها على عدم توافر قطاعات عمل لهذه الكفاءات العلمية، أو عدم توافر بيئة اجتماعية مدركة، يتفاعل فيها الفرد مع نظرائه ومع مجتمع المعرفة في الحقل نفسه، كذلك عدم وجود مراكز أبحاث لإشباع توق المبدع إلى الخلق والإبداع والمنافسة. إنّ أهمّ دوافع الهجرة في لبنان، خصوصاً منذ بداية الحرب في العام 1975 وحتى يومنا، تكمن في حالة غياب الأمن الإنساني الذي يشمل عدّة مؤشّرات، منها:
- الأول يتمثَّل في اللا-أمن الاقتصادي، ومقدار التغطية الرعائيّة للدولة، والمديونية العامة.
- الثاني هو في اللا-أمن السياسي الذي يعبِّر عن ذاته من خلال خرق الحقوق السياسية، وارتكاب الجرائم السياسية والعمليات الإرهابية، والفساد في الدولة ومؤسّساتها، وانعدام الآليات الديمقراطية أو توقفها، وغيرها.
وهناك أيضًا اللا-أمن الاجتماعي الذي يقاس من خلال الأمن الغذائيّ والصحيّ والبيئيّ، واللا-أمن الناتج عن النزاعات الإثنية أو الدينية إضافة إلى اللا-أمن الشخصي والمعنوي. إن كل مصادر اللا-أمن هذه تتداخل فينتج منها ما يسبّب الهجرة.
لكن هذا ليس كلّ شيء. فللهجرة تأثيرات إيجابية أيضاً إضافة إلى تلك السلبية على صعيد الوطن والمجتمع والعائلة.
إن إسهامات المهاجرين عامة هي نتيجة تفاعل الرأسمال البشري المهاجر مع ما تقدّمه الدول المستقطِبة من بيئة قابلة ودعم ومختبرات وإمكانيّات وتقنيّات، ممّا يُفسح المجال أمام المهاجرين لتحقيق اكتشافات علمية، أو المساهمة في تطوير أساليب حديثة في إدارة المؤسسات. وهي تنعكس إيجابًا على لبنان إن مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. فمن بين الانعكاسات الإيجابية المباشرة تحسين سمعة العامل اللبناني، وزيادة الطلب عليه، والزيادة في التحويلات المالية من المهاجرين إلى أهاليهم في لبنان. أما التأثيرات غير المباشرة فنشهدها في زيادة نسبة الرأسمال البشري اللبناني بعد عودة المهاجر مع ما يحمله من رأسمال ماليّ وخبرات وتقنيات وعلاقات وتواصل، كما نلمسها في تحويل المهاجر العائد للمعلومات والمكتسبات الفكرية والاجتماعية إلى المواطنين اللبنانيين عبر التحادث والتعامل، ومنها مثلاً المعلومات المتعلّقة بأمور الصحة والطب والبيئة.
أمّا أهمّ التأثيرات المباشرة فهي التحويلات المالية التي يورّدها المهاجرون إلى أهاليهم في الوطن الأم، والتي قدّرت بنحو 492,4 مليون دولار أميركي في العام 2005، وهي لا تشمل الأموال المنقولة من قبل المهاجرين أو ذويهم أو أصدقائهم. وتساهم هذه التحويلات بنسبة 22,2% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي(OECD). ويحتلّ لبنان بعد الهندوراس المرتبة الثانية بين الدول في هذا المجال، كما يحتلّ المرتبة الأولى بين الدول في كميّة التحويلات المالية بحسب السكّان أي بمعّدل 1,377 دولار للفرد في العام 2005.
إن السوق اللبنانية لا تستوعب العمالة اللبنانية وذلك لارتفاع أعداد الخرّيجين الجامعيين وضيق سوق العمل. كما نعلم أن العولمة أفسحت في المجال أمام كلّ من يرغب في الهجرة إلى حيث يجد عملاً مؤاتياً لطموحاته وكفاءته أيّاً كان البلد. ونعلم من تعاطينا اليوميّ مع المهاجرين، ومن الدراسات العديدة عن المهاجرين اللبنانيين وتواصلهم مع وطنهم، أنّ الكثيرين منهم يرغبون في العودة إلى لبنان بعد اكتساب الخبرة من الخارج، وذلك لإعادة جمع شملهم بعائلاتهم. نحن ندرك تماماً أنه ليس باستطاعتنا إيقاف الهجرة، لكننا قادرون على إدارتها. وأكثر من ذلك، فهذه الطاقات الخلاقة، وإن لم تعمل في حقل تخصّصها ومستواها العلميّ في الوطن، تُصبح حقّاً نوعاً واضحاً من "هدر الأدمغة" Brain waste. أليس بقاء هذه الأدمغة في لبنان عاطلة من العمل، أو اضطرار أصحابها إلى ممارسة أعمال خارج نطاق اختصاصها، هو أيضاً نزف للأدمغة؟!
فمتى إذن يصحّ الكلام على نزف الأدمغة؟! أهو عندما تكون تلك الأدمغة مهدورة وهي في الوطن، أم عندما تهاجر وتستفيد منها دول أخرى؟!
في رأينا، أننا في البلدان العربية خصوصًا، نتكلّم على هجرة الأدمغة عندما نخسر أصحابها لصالح دول أخرى تفيد منها وتؤمن لها بيئة للإبداع والمنافسة، إلاّ أننا نفعل القليل لإبقاء تلك الأدمغة عندنا وتأمين البيئة المناسبة لها لكي تكبر فينمو معها المجتمع ويعظم الوطن.
ممّا لا شك فيه أن المهاجرين أصحاب الأدمغة والكفاءات قد ساعدوا، بل كانوا عاملاً فاعلاً، في تطوّر الدول المتقدّمة. فالأدمغة المهاجرة التي استوعبتها الدول المضيفة ساعدتها على أن تكون في الطليعة في مجال العلوم والتكنولوجيا والطب والهندسة والعلوم الاجتماعية وغيرها. هذه الأدمغة أعطت الولايات المتحدة ثلاثين اسماً في هذه المجالات، وأكسبتها نسبة عالية من الجوائز العالمية، ومنها الجائزة الأكثر اعتباراً في العالم (جائزة نوبل – نالت الولايات المتحدة أعلى نسبة من جوائز نوبل في مختلف العلوم والمباحث). لكن الوطن الأم لهذه الأدمغة أفاد بطريقة غير مباشرة من الاختراعات والتطويرات التي أنجزها أصحاب هذه الأدمغة الذين صدّروا إلى الخارج. لكن ذلك لا يكفي؛ ففي الوقت الذي يهجّر لبنان من مواطنيه، تسعى دول كثيرة، وفي مقدّمها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى بكلّ ما أوتيت من قوة لوضع استراتيجيات وسياسات لاستقطاب الأدمغة والمهاجرين الكفوئين وللحدّ من الهجرة العامة، التي لا تتناسب مع خطط تنميتهم وتطورهم.
وعليه، فإنّ الدول النامية المصدّرة لهذه الأدمغة والكفاءات يجب أن تحذو حذو هذه الدول بوضع استراتيجيّات وسياسات للإفادة من هذه الثروات التي تتمتّع بها، وإفادة مواطنيها، عبر إبرام اتفاقيات وعقود توفّر أفضل شروط العمل لمواطنيها. وعلى المعنيين في لبنان التعامل مع الواقع بكلّ وعي، وبتخطيط ذكيّ ومستقبليّ. وإذا كان اللبنانيّ الكفوء مطلوبًا بشدّة من الخارج، فعلى الدولة تسهيل درب هجرته ليحقق الفائدة القصوى المرجوّة وليتمتع بالحماية المناسبة.
وكذلك، ينبغي على الدولة أن توضّح لمن يعنيه الأمر من مواطنيها أنّ الهجرة هي "خيار" لكنّها ليست استراتيجية التنمية الرسمية؛ كما على لبنان أن يتخطّى حالة البكاء على الأطلال ونعي هجرة الأدمغة فيه، والعمل على الإفادة من موارده البشرية، وتكريس الفائض منها سلعة للتصدير، فينتقل من هجرة الأدمغة إلى تصديرها.