من جديد، ومرة أخرى، يقدّم لنا سليم النفار صاحب (ذاكرة ضيقة على الفرح) نصّاً يملأه الألم وتشحّ فيه الفرحة. ففي رواية (ليالي اللاذقية) تغرق الشخصيّات في قتامة ليلٍ طويل، ولا تهنأ بهدوء النفس والسكينة أبداً. لا يكتب سليم عن القتامة لشغفه بها، أو ميله لها، بل هو يستدعيها في نصوصه، كي يبيّن لنا، كيفية التغلّب عليها بالحلم والصبر والأمل.
اجتمعت في ليالي اللاذقية آثار نكبتين اثنتين، الأولى هي نكبة الشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨، والثانية هي نكبة الاضطهاد السياسي في سوريا. اتّخذت الرواية من اللاذقية مكاناً لأحداثها، وتنوّعت شخوصها ما بين لاجئين فلسطينيين ومواطنين سوريين لاذقانيين. التصنيف الأكثر دقّة للرواية هو تصنيفها كرواية اجتماعيّة، فالبُعد الاجتماعي هو الغالب عليها، بالرغم من ثرائها أيضاً بالمضامين السياسيّة الكثيرة.
انداح قسمٌ كبير من أحداث الرواية لتبيان الطابع الفريد للأخوّة الفلسطينية – السورية؛ فبين الفلسطينيين والسوريين امتدت وشائج النسب والمصاهرة. وفي سوريا بالذات، شعر اللاجئ الفلسطيني بالودّ والقبول والألفة، ولم يراوده يوماً أدنى شعور بالغربة.
انشغلت الرواية في قسم كبير من أحداثها بالحالة السياسية السورية في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، فأتت على اصطدام النظام بالشيوعيين والإخوان، وأتت على انخراط بعض الفلسطينيين في هذا الصِدام الدامي.
تفوّق اللون الاجتماعي على اللون السياسي في الرواية، أو بالأحرى صبغه بصبغته، فحتى الأحداث السياسيّة الصرفة التي جاءت في الرواية، تناولها الروائيّ في سياق المجتمع ومن منظور اجتماعيّ. وكان ثمّة ولوج في العقل الباطن للشخصيّات لاستقراء حالتها النفسيّة، وتأثر تلك الحالة بالمتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة.
لم يكن السرد المستخدم في ليالي اللاذقية سرداً عادياً، وإنّما كان سرداً متطوّراً، عماده تقنيات السرد الحديثة. فالرواية بوليفونيّة متعدّدة الأصوات، وليست من ذوات الصوت الواحد، أي إن أغلبيّة شخوصها مارست الحكي وتناوبت على القيام بدور الراوي.
طَفَر في الرواية الاستخدام الواضح لتقنية الاسترجاع (فلاش باك)، فقد استخدمها الروائي كذا مرّة، وتحديداً في الصفحة الأولى من الفصل الأول. ولم يسر الإيقاع الزمني لأحداث الرواية على وتيرة واحدة، بل تنوّع هذا الإيقاع، بفضل استخدام الروائيّ لتقنيّات القطع، والخلاصة، والمشهد، والاستراحة.
جاءت عناوين فصول الرواية على غير المألوف، فقد تعنون كلّ فصل باسم الشخصية، التي تولّت عملية السرد بداخله. وكان مزج السرد بالوصف بالحوار في داخل الفصول يجري بكلّ هدوء وانسيابيّة، فلا يكاد القارئ يلحظ أيّ نتوء ناتج عن تركيب المكوّنات الثلاثة.
قَدَّم الروائي وصفاً مدهشاً للأماكن والشخصيات، فبدا كأنه يرسمها بالكلمات. ولا تكمن جماليّة الوصف في انتقائه العبارات المؤثرة فحسب، بل تكمن أيضاً في تغلغله في أدق التفاصيل والجزيئات. في هذه الرواية اضطلع الوصف بدورٍ لافت، هو استهلال الفصول والتوطئة لعملية السرد.
أتت نهاية الرواية نصف مفتوحة ونصف مغلقة. في النصف المغلق أقفل الروائيّ بعض الأحداث وأدوار الشخصيات بشكل تام وواضح، لكن في النصف المفتوح تُرِكت الكثير من الأسئلة بلا أجوبة، وأبقت بعض الأحداث على علامات الاستفهام حولها، واحتفظت بعض الشخصيات بألغازها وأسرارها.