النهار

أزمة القطاع العام وربيع الليبرالية
المصدر: النهار - صبري الرابحي - تونس
أزمة القطاع العام وربيع الليبرالية
غير بعيد عن الوضع العام المتردي والباعث على القلق، يعيش القطاع العام أزمة قد نعتبرها أزمة منتصف العمر بين اندثار الدولة الراعية والنيوليبرالية
A+   A-
غير بعيد عن الوضع العام المتردي والباعث على القلق، يعيش القطاع العام أزمة قد نعتبرها أزمة منتصف العمر بين اندثار الدولة الراعية والنيوليبرالية التي حولت كل شيء إلى متعامل رأس مالي في دورة اقتصادية مغلقة لا من باب مركزة الاقتصاد على شاكلة المنوال السوفياتي، وإنما على شاكلة الوسط الاستثماري المنغلق على خيارات محدودة تحكمها البنوك ومؤسسات القرض بالحديد والنار.
الملاحظ خلال هذه الفترة هو ارتفاع أسهم التعليم الخاص حتى في سنوات التمدرس الأولى، فبعد أزمة رأس المال الصحي التي كشفتها جائحة كورونا، صرنا نتحدث عن رأس مال تعليمي أصبح خياراً موجعاً لعديد العائلات حتى ذات الدخل المتواضع منها دون التساؤل عن المحتوى البيداغوجي والنجاعة في صقل عقول أبنائها.
قد يستفيق التونسيون قريباً جداً على اختفاء المدرسة العمومية ليس استتباعاً لتهميش دورها التربوي-التعليمي فقط، وإنما لتحول الحق في التعليم إلى حق نخبوي اجتماعياً على الأقل في ظل تحكم رأس المال في أبسط الحقوق المواطنية التي حسمتها دولة الاستقلال، وكانت لزمن غير بعيد "مصعداً اجتماعياً" لمن نسيتهم الأرستقراطية ثم البورجوازية ساعة توزعت "الثروة" جهوياً وعشائرياً وقطاعياً.
هذه الأزمة في القطاع العام ككل يعمقها فقداننا كمواطنين للثقة في نوعية الخدمات المسداة في القطاع العام والتي للأسف أصبحت محكومة بندرة وسائل العمل وعدم تأطير منتسبيها حتى صرنا نتحدث عن غياب الأوراق البيضاء وآلات الطباعة وغياب الموارد البشرية اللازمة لتشغيل مصلحة إدارية بسيطة.
صرنا ننساق وراء التهميش المتعمّد لمرافق الصحة والتعليم، ونذهب اختيارياً إلى القطاع الخاص نكاية بـ"الدولة" التي يغيب عنها ما يحضر لدى رأس المال المتحرر من كل شيء حتى من تشريعاتها البائسة...
هذه "الدولة" الراكنة إلى الخيارات اللاشعبية، وإن كانت لا تستحي في المطلق من خياراتها الموجعة، فإنه من الجلي أنها لا تستحي من تجهيل أبنائنا والتهاون في حقنا في الصحة العمومية ما دامت لم تستحِ من قبل من تجويعنا.
الثابت إذن أن المال صار يحكم كل شيء، وأن أي مساحة للرفاهية التي قد نستشعرها يوماً ليست سوى بروباغندا الليبرالية لإلهائنا عن وجهها البشع الذي إن كتب له أكل القطاع العام فإنه لن يتورع عن أكلنا جميعاً، وانتقاء الناجين منه وفقاً لأصولهم وأرصدتهم، وذلك هو ببساطة توحش الرأسمالية.
من ناحية أخرى فإن المدافعبن عن تغوّل القطاع الخاص يجدون أنفسهم في خندق الانتصار للانفتاح واقتصاد السوق ويصطدمون في العادة بهيمنة أطراف بعينها على جل القطاعات في إطار اقتسام السوق وتحالفات رأس المال التاريخية والتي تشكل بطريقة أو أخرى المشهد العام، وتؤثر مباشرة في الواقع التونسي، حتى إنها أصبحت محدداً رئيسياً في الحياة السياسية التي غزاها رجال الأعمال بأموالهم، وغاب عنها المثقفون وأفكارهم حتى صارت بلا عنوان ولا تنظير.
المدافعون عن وجهة النظر هذه يصطدمون بحقيقة توحش الخيار الليبرالي في أعتى أزمات الأمم، وآخرها جائحة كورونا التي جعلت من الحق في الحياة حقاً نخبوياً، وحوّلت توفر سرير في المصحات الخاصة إلى ضربة حظ في ظل تزايد الطلب وانتعاشة رأس المال في ربيع سطوته الاقتصادية والذي تزامن مع خريف الإنسانية.
لقد أصبح الأمر أكثر من محيّر في ظل غياب الوعي السياسي وحالة النكران المرضي لجميل القطاع العام الذي أثث ولو بإمكانياته البسيطة فترة بناء الدولة الحديثة، وما زال يقف سنداً للطبقات الشعبية التي آن الأوان لشحذ وعيها الطبقي أمام خطر تغول سلطة رأس المال التي تجاوزت كل الخطوط الكلاسيكية التي رسمها المواطن وتطاولت على أبسط حقوقه المواطنية، فلم يعد من الوارد مخاطبة إنسانية رؤوس الأموال بقدر مخاطبة أنانيتهم، تأصيلاً لفكر آدام سميث الذي كان ولا يزال عرّابهم إلى ذلك، فيما اكتفت الحكومات المتعاقبة بلعب دور الكاردينال الصامت أمام بوح الليبرالية بأنه يتوجب أن يكون لكل شيء ثمن، حتى لو كان الإنسان نفسه.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium