النهار

قصة من الواقع
بدأت الحكاية، سنة 2013، لحظة التقاء شخصين في عزاء داخل كنيسة القرية
A+   A-
بدأت الحكاية، سنة 2013، لحظة التقاء شخصين في عزاء داخل كنيسة القرية. آنذاك توفيت جدتي، كان الحشد كثيفاً جداً داخل القاعة، الجميع يرتدي الأسود، معظمهم يرتشف فنجان القهوة ترحماً على الفقيدة. خسرنا جدتي الحبيبة، ولكن السماء ربحتها.
كنت أرتدي نفس البنطلون والقميص السوداء ليومين متتاليين، لأني لا أحب هذه الواجبات البدائية الكاذبة، والحزن يختلج في أعماقي لفقدان جدتي الحبيبة، فكيف لي أن ألبس وأحاكي الناس!
كنت جالسة، وإذ بها تقترب نحوي، تضع حقيبتها الكبيرة بالقرب من كرسيّي، قائلة: الله يرحمها، وهل بإمكاني ترك الحقيبة جنبك لبرهَة، قلت: طبعاً. عادت بعد دقيقتين، وجلست بالقرب مني. كانت ترتدي بنطلوناً وقميصاً أسودين، وتضع نظارات سوداء كبيرة الحجم. قالت: أنا وأمي أصدقاء خالك، قلت: تشرفنا، رأيتك في الضيعة منذ الصغر ولكن لم التقِ بكِ وجهاً لوجه.
خلعت النظارة، وبدأت تتكلم، حديثها وتصرفاتها لطيفان جداً، لديها خَجَل جميل، لا يعكس بتاتاً ما كنت أسمعه عنها أحياناً من الناس. انتهى العزاء، ذهبنا جميعاً نحو منزل جدي وجدتي، جلسنا بالقرب من بعضنا، دخلتُ نحو المطبخ لتحضير القهوة للأقارب، وإذا بي أراها بجانبي تريد مساعدتي.
حلّ الظلام، ورحل الجميع. بعد مرور ساعة تقريباً، حملت حقيبتها، ودعتنا، مشيت معها إلى الخارج، قالت: "خلينا نشوفك"، أجبتها قائلة: بالتأكيد أعطني رقمك كي نتواصل، أعطتني رقمَّيْ هاتف محمول، وأنه بامكاني الاتصال على الرقمين.
منذ ذاك الحين، ونحن على تواصل دائم، عدد عقارب الساعة. بكل بساطة، هناك اشخاص ترتاح لهم منذ اللحظة الأولى، وتتمنى لو أنكم عائلة واحدة، مثل الأخوات.
دقت أجراس الكنائس الثلاث في ضيعتي العزيزة، إنه عيد مار ميخائيل. تجري العادة كل سنة، إقامة مهرجان للقديس، تهافت الناس على الحضور، موسيقى تعلو مع أصوات الفنانين، رقص وفرح يسود الأجواء. وطبعاً كما تجري العادة أيضاً، "هي جالسة بالقرب منّي"، مرتدية شورت جينز قصيراً جميلاً مع قميص طويل وحذاء يعرف بالـ "أغ"، تصورنا، وسمعنا الأغاني، ورددناها بسرور.
كنّا يومياً، وبشكل متواصل، وغير منقطع، من خلال التواصل الإلكتروني، والشخصي، نعتاد على إرسال رسائل نصيّة لبعضنا البعض فيها صباح الخير ومساء الخير، عبر خاصيّة "الواتساب"، وخلال النهار ندردش على فنجان القهوة الشهير وطبعاً معظم الأحيان في منزلها مع أمها وأبيها، وكلبها المهضوم الذي فارق الحياة بحادثة أليمة. وقبل الخلود الى النوم نبعث بجملة "غود نايت منحكي بكرا بس أوعى".
كانت تشاركني أدق التفاصيل، وتردد على مسامعي بأنها تعتبرني كأخت لها، وهذا الأمر كان يفرحني جداً، لأن المرسِل شخص أحبه، وأحب وجوده في حياتي.
بعد مرور سنة على هذه الصداقة، خسرت أمّي. لن أغوص في هذا الموضوع لأن الحرقة والحزن أصبحا رفيقي دربي. لم تتركني لوحدي، مدة سنة ونصف، وفي وقتها كانت على علاقة مع حبيب لها، الذي كان يعمل في دول الخليج. كانت ثانية بثانية بجانبي، غمرتني بهدوئها وحنانها واهتمامها، وأشكرها على وقتها ومحبتها خلال تلك المرحلة.
خلال هذه الفترة، عندما أصبحت أمّي ملاكاً في السماء، سألتها: "ليش بحبك هلقد"، أجابتني قائلة: "لأني بحبك عنْجد".
خلال السنوات الماضية، زرنا مراراً سيدة حريصا، وعدداً قليلاً من المطاعم والمقاهي، ناهيك عن نزهاتنا إلى واجهة بيروت البحرية، وعيادات طب الأسنان، وعيادات الاهتمام بالبشرة، وصالونات تصفيف الشعر، إلخ.. يمكن القول إن معظم أوقاتنا وجلساتنا كانت في المنزل.
أينما نذهب نكون بجانب بعض، أمثلة كثيرة، أذكر بعضها: في المطعم نجلس بجانب بعض، نحتسي القهوة ونجلس بجانب بعض، عندما نلتقي بالأصدقاء نجلس بجانب بعض، وفي الانتخابات البلدية جلسنا "بلزِق بعض".
سنة تلو الأخرى، شجار تلو الآخر، بُعد طويل الأمد، أطول خلاف مدته الزمنية كانت نحو حوالي الستة أشهر! خلال فترات أحد الشجارات الطويلة، كانت قد تزوجت وتطلقت بعد بضعة أشهر، في تلك الفترة لم أعلَم شيئاً عنها سوى من بعض المقربين، لأنني كنت فعلاً مستاءة من موقف صغير حصل بيني وبينها على موضوع. عندما علمت بانفصالها، لم أشأ التدخل أو محاولة إعادة التقرب منها، لأني كنت على خلاف معها. مع العلِم بأنه كان التوقيت المناسب لأنها حزينة وبحاجة لأصدقاء بجانبها، ولكن لم أشأ التطفل، لأنها لو احتاجتني كان بإمكانها الاتصال والتنازل والاعتذار ولَو لمرة واحدة وتقول مشتاقة لصديقتها إذا كانت فعلاً مشتاقة أو فقط تذكرتني لأنها تمر في مرحلة صعبة!
أذكر جيداً عندما رأيتها بالصدفة في تلك الفترة في متجر بالقرية، وعندما دخلت، استفاق اشتياقي ومحبتي لها من جديد.. للأسف!
لا أريد التحدث عن تفاصيل الخلافات، ولا عن المعاني الجارحة، ولا عن صعوبة الفراق. أفضل الكتابة عن الأشياء والذكريات الجميلة فقط! يمكن ذكِر أن معظم الخلافات كانت من شدّة محبتي التي تسودها الأنانية بشكل كبير! إلى جانب عقلي الذي يحب بلْوَرَة أحداث، عدم وجودها ممكن من الأساس.
حاولت مراراً عدم تكرار نفس الأخطاء، ولكن المشكلة هي أنني أتدخل في أشياء لا تعنيني بل العكس تتعبني، وعندما أنزعج من تفصيل صغير أو كبير تصرفته عن غير قصد، تأتي ردة فعلي الجنونية وتجبرني على التحول في ثوانٍ إلى شيطان! وبعد دقائق يعود الملاك! أعترف بأن شخصيتي صعبة.
من شدة محبتي لهذه الكائنة، لم أرد أن أحزنها أو ألومها على أي شيء. كنت فقط أريدها "جالسة بجانبي" كما من أول لحظة التقينا فيها.
مرّت السنوات، ومع قدوم وباء الكورونا، زادت المشاكل السخيفة، ومدة الخلاف تخطت المعقول! من بعدها بسنوات، تزوجت مرة أخرى، زرتها في منزلها، أحسست أنها شخص غريب! لا شبه بيننا! كانت شخصاً حزيناً لا قلباً ينبض بالفرح! تمنيت لها حياة جميلة.
سألتها آنذاك نفس السؤال القديم، "ليش بحبك هلقد"، وإذ بها تجيبني في ردٍ مختلف تماماً عمّا في السابق! بدأت تشيد بشخصها كأننا في مسابقة جمال للأخلاق العزيزة والقلب الطيب! حينئذٍ، ضحكت بيني وبين نفسي، وأنهيت الحديث عن موضوع المحبة والاشتياق لأنه من الواضح أنه لا يعنيها بعد الآن، إلَاّ إذا...
كنّا عندما نرى بعض، تظهر الابتسامة...
أصبحنا لا نرى بعض، وكأنها النهاية...
أتساءل بين عقلي وبين قلبي؛
هل خسرنا بعض؟
هل الخلافات الصغيرة أتعبتني وأتعبتها؟
هل السنوات غيّرت لهفة الأشخاص؟
هل هذه الصداقة كانت وهماً؟
هل لا زلنا فعلاً نحب بعضنا بعضاً؟
هل صداقتنا لن يكسرها شيء لتبقى وفيّة وخالدة؟
كل هذه الأسئلة وجدت أجوبتها مع مرور السنوات، استنتجت لماذا "الكل" وأشدد على كلمة الجميع، كانوا يلومونني على قربي ومحبتي الـ unconditional لها! للأسف لم يستلطفها أو يحبها أحد! كنت أواجههم جميعاً قائلة:" إنها إنسانة جيدة ومحبة"! فشلت المعركة وبانت الحقيقة، والجميع كان على صواب! وأنا كنت المخطئة بحق نفسي!
الحمدالله دائماً وأبداً!
.. وتبقى الشمس شارقة!


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium