النهار

ميراث الجسد
لا أكفّ عن التساؤل عن حرية المرأة في جسدها.
A+   A-
لا أكفّ عن التساؤل عن حرية المرأة في جسدها. ليست تلك الحرية التي ينادي بها البعض ويدفعون النساء للتخلي عن ملابسهن، ولا أقصد أيضًا التحكّم بالمرأة كأنّها قطعة أثاث، لا مكان لها سوى المنزل.
لكن ما حدث بالفعل أثار رعبي أكثر من هذه الأقاويل ...
أُصيبت قريبتي "سمر" بآلام شديدة في منطقة البطن، فراجعت أكثر من طبيب، وأجرت تحاليل وأشعة ومنظاراً للمعدة، فلم يتوصّل أحدٌ إلى تشخيص المشكلة، بالرغم من زياراتها أشهر وأكبر الأطباء، وإنفاقها مبالغ باهظة على الكشوفات التي صارت ذات أرقام فلكيّة. وفي النهاية، لا يمكن التحدّث إلى هؤلاء الأطباء بحرية والحديث على ما يؤلمك، فليس لديهم وقت لسماعكِ، بل ينظرون إلى الأشعة والتحاليل بذات التعالي والترفّع الذي يتعاملون به مع المرضى كأنّهم متسولون، وكأن لم يدفعوا قبل دخولهم إلى سيادة الطبيب نصف راتبهم على الأقلّ.
ذات يوم شعرت "سمر" بألم شديد في الشارع، وصادف قربها من مركز صحيّ، فاضطرت إلى الدخول بسبب عدم احتمالها الوجع. أثناء انتظارها، سمعت الجميع يتحدّث عن "الدكتور محمد" وشطارته وطريقته الودودة مع المرضى، وقدرته على علاجهم، وتمنّت أن يكون هو من يفحصها. دخلت إلى حجرة الكشف، فقابلت شخصاً قليل الحجم، ذا صوت هادئ، فظنّته الممرض في البداية، فسألته بشيء من التعالي عن الطبيب. ابتسم، وطلب منها التمدّد على السرير وسرد مشكلتها. فحصها بدقة، وأجرى "سونار" على منطقة البطن، وأخبرها بأنها تعاني من المرارة بشكل مزمن، لكنّها أخبرته بما أجرته من تحاليل وأشعة، مبديةً دهشتها من عدم معرفة الأطباء الكبار بهذه المشكلة المفترض أنّها لا تخفى على أمثالهم!
أخبرها أنها بحاجة إلى جراحة عاجلة، وعليها اتخاذ القرار على الفور، ثم سلّمها قائمة بأسماء المستشفيات التي يعمل فيها، والتكاليف المختلفة لكلّ منها، والتي تتدرّج حسب المكان لتناسب أغلب الإمكانيات، تاركًا لها حرية اختيار المكان والموعد، على أن يكون في أقرب وقت.
خرجت مصدومة بهذا الأمر المفاجئ، وسألت أوّل ممرضة قابلتها عمّا إذا كان "الدكتور محمد" موثوقاً، قائلة "هو دكتور شاطر بجد، وإلا بيعمل عليا شغل، ده طلب مني عملية فجأة؟". أجابتها الممرضة بتعجب واندهاش من سؤالها، قائلة باختصار وثقة، وكأنّ ردّها يمحو كلّ التساؤلات والشكوك "ده الدكتور محمد"!
أخبرت زوجها بالخبر هاتفياً، فأصابته الدهشة والصدمة من التشخيص، ومن السرعة في اتّخاذ قرار، قبل أن يصل بعد جدال ونقاش حادّ إلى البكاء والانهيار. خضعت "سمر" لرغبة زوجها في اختيار مستشفى هو أقلّ من أقلّ اقتراحات الدكتور محمد، الذي رفض هذا الخيار، وبالتالي اعتذر عن إجراء العملية، بعد محاولات إثناء الزوج عن هذا الخيار لأنها مستشفى دون المستوى واحتمالات التلوث والفشل فيها كبيرة، ولا يمكنه كطبيب تحمل المسؤولية. لكن الزوج صمّم على الخيار بالرغم من حاله الميسورة. ضعفت مقاومة "سمر"، واشتدّ عليها الألم، فرضخت لرأي الزوج، الذي أصرّ على إخراجها في نفس يوم العملية بحجة خوفه من التلوّث وكورونا، فيما السبب الأصليّ عدم رغبته في التغيّب عن العمل وتحمّل خصم يوم. عادت إلى منزلها بكثير من الألم، وقد بدأ مفعول المخدّر بالتلاشي، فارتفعت درجة حرارتها، وساءت حالتها، ولم تعرف الممرّضة التي اتفق معها الزوج على متابعة الجرح كيف تتصرّف. أعادوها مرّة أخرى إلى المستشفى، وقد أُصيبت بتلوّث حادٍّ في الجرح، وبارتفاع مستمرّ في درجات الحرارة، وبمضاعفات شديدة انتهت بها إلى الرعاية المركّزة، حيث ما تزال فيها منذ شهر، من دون تحسّن.
كلّ هذا بتوقيع وموافقة من الزوج على التصرّف بجسد زوجته، بل بحياتها. هكذا قال المستشفى، ويقول القانون، الذي يكتفي بقطعة من الورق لا حقّ لأحد إلا الزوج في التوقيع عليها؛ فلا يحقّ للأب أو الأم أو الأخ الاعتراض، فقد بدأت حياتها معه بورقة، وها هو يُنهيها بورقة أخرى.
ذكّرتني هذه الواقعة بما حدث بعد إنجابي لابني الأخير، وبالفعل هو الأخير، ولن يكون بعده ...
عانيتُ من بعض المشكلات الصحية، شخّصتها الطبيبة بأنها تكيّسات على المبايض، وتتطلّب جراحة بسيطة. ولأن صحتي كانت ضعيفة حينها، اضطرت إلى إعطائي "بنج كلّي". وبالطبع كان إقرار الموافقة على العملية وتبعاتها بيد زوجي في الذقت الذي كنت فيه مخدّرة. شعرتُ بآلام رهيبة بعد العملية، ظلّت معي لأسابيع. وعند المتابعة مع الطبيبة، عرفت أن زوجي طلب إليها "ربط المبايض"، و"استئصال الرحم"، تحت ادّعاء الخوف من الأمراض التي قد تصيبني في ما بعد، والحقيقة أنّه لم يرغب في الإنجاب مكتفيًا بأبنائنا.
آلام صدمتي أقوى بكثير من آلام كلّ جروحي الظاهرة والباطنة. وعندما سألته، أجاب ببرود بأنّنا اتفقنا على عدم الإنجاب. فما الفرق إذن؟ بل والمثير للسخرية أنّه اتهمني بالكذب، وبأنني لم أكن صادقة في هذا الاتفاق، وإلا فما سبب انفعالي لهذه الدرجة؟!
كرهته يومها كما لم أكره أحداً. لم أعرف معنى القهر الممزوج بالكراهية إلا وقتها. قلت له والدموع تنهمر كجمرات من نار تحرق وجهي، وشذرات غضب ساخنة تتطاير من عيني، تمنيت أن تُصيبه بحرقة قلب كما أشعر، لأنّه جرّدني من أنوثتي دون حق؛ فاتفاقنا لم يكن على التصرّف بجسدي وبتر وتعطيل ما يشاء منه، بل اتفاقنا لم يجرحه بخدش، وهو الذي انتهك جسدي وأنوثتي بكلّ وحشية.
بدا وكأنه لم يتفّهم الأمر يومًا، إلا أنّه تفهّم جيدًا ما أعنيه، وتجاهل فهمه وألمي. سقط من نظري يومها إلى الأبد، مع كل محاولاته في ما بعد للتعويض بهدايا وفعل ما أريد. لكن هذا لم يُعِد إليّ ما أخذه مني.
سألت صديقتي، التي سألت بدورها صديقتها المحامية، فأخبرتها بضرورة رفع قضية عليه فورًا، وستثبت الأوراق الرسمية والتاريخ المرضيّ هذا الجُرم الذي ارتكبه. كم وددتُ أخذ هذا الإجراء! رغبتُ بشدة في رؤيته خلف القضبان، إلى أن قاطع أفكاري بكاء صغيري المولود حديثًا حينها. سيكبر ووالده في السجن بسبب أمه.
أيّ ميراث ممكن أن نتركه لأبنائنا ... وأيّ قهر نتحمّله لأجلهم؟!

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium