نعيش اليوم في عالم سريع ومتغير، تتحكم فيه القوة والتكنولوجيا وتطبخ فيه القرارات في مطابخ عدة تمتد من المكاتب والبلاطات إلى المخادع الأميرية الحافظة للنسل الأمبراطوري وحتى تلك المتمردة عليه.
يسهل توجيه العالم حسب ما يتوفر من قوة سواء كانت صلبة أو ناعمة أو متدثرة برداء الإغاثة الإنسانية أو حتى الحروب المقنّعة، تلك التي يتم اختيار أشرارها بعناية فائقة.
في غفلة من كل هذا يتسلل خطر مستحدث، ناعم كاللقاحات نبيل في الظاهر كالمساعدات الإنسانية، لكنه متوحّش كاقتصاد السوق أو أكثر توحّشاً.
إنه الذكاء الاصطناعي، ذلك المارد المقبل على عجل في تلابيب العولمة، والمساوم على مكانة الإنسان وعمله وحتى تفكيره عندما يتحول كل شيءٍ قابلاً للإنجاز بأدق من المجهود الإنساني.
تُدخل بياناتك وتطرح الأسئلة وتنتظر من خادمك الآلي السيبراني أن يذعن لطلباتك حتى البذيئة أو الاحتيالية منها أو الموغلة في الغباء أو التغابي، فيجيب في وقت قياسي أو يتمنّع بلباقة، ويدعوك لأن تهذب طلبك بإتيكات التكنولوجيا وأن تترك بلاهة الإنسان جانباً.
يبدو أنه من الضروري الانتباه إلى أن أزمات الإنسانية المتعلقة خاصة بالعمل تتلخص في ثلاث مراحل مفصلية.
الأولى عندما تحول العمل إلى سلعة لها ثمن لا يحترم في أغلبه الجهد الآدمي.
الثانية عندما صارت الآلات تزايد على الجهد الآدمي وتعوضه نسبياً في ما استطاعت المكننة الوصول إليه.
أما الثالثة فهي الحالية وهي تعويض الإنسان بالذكاء الاصطناعي.
لقد صار من الضروري أيضاً الانتباه إلى أن ملايين مواطن الشغل صارت مهددة في العالم، فقد تصبح مهن مهمة كالترجمة والكتابة الصحفية وتحليل المعطيات المالية والتخطيط ومتابعة الأزمات وغيرها، قد تتحول إلى إرث إنساني أو على الأقل إلى تراث الإنسان المفكر.
كما أن تحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة تفكير بديلة قد يتعاظم معها انغلاق الإنسان على المعرفة وانفتاحه على ما يمكن أن يتوفر له بواسطة التكنولوجيا.
إنسانياً، وفضلاً عن تفاقم الهوة بين الشعوب واندثار جزء هام من ثقافاتها وحضاراتها قد يصبح الوجود البشري مهدداً أكثر فأكثر متى تأكد لبعضٍ أن وجود الكل ليس بتلك الضرورة التي أملاها الكون، وأن عبء المجاعات والأوبئة وندرة المياه والهجرة قد يكون محفزاً للتخلص من جزء من البشرية خاصة تلك التي قد يسهل تعويضها بواسطة الذكاء الاصطناعي مثلما تم تعويض كثيرين بواسطة الآلات وتركوا للأوبئة والحروب التي كانت مربحة لأباطرتها كدأبهم في بيع كل ما هو إنساني.
ليس التوجس من كل مستحدث هو الدافع لكل هذا الحذر والخوف، وإنما تجارب الإنسانية المتعددة مع كل ما من شأنه تسهيل حياتهم وزيادة أرباح اقتصاداتهم المتوحشة طالما كان له ضحايا سواء من الآفلين أو المستهلكين الذين لم يحن بعد موعد التخلص منهم.
الخوف كل الخوف أن يكون الذكاء الاصطناعي سريعاً في الحسم في هذه المسألة كسرعته في الاستجابة لأكثر الطلبات الإنسانية تعقيداً.
إنه الذكاء الذي سيتطاول حتماً على طيبة أو غباء الإنسان، لا يهم، المهم أنه خطر محدق بلا مبالغة.