- الشرفة تملك ميزة أنها متنفّس يشعرك أنّك في الخارج وفي الداخل في آن واحد. منذ صغرنا والشرفة هي مكافأة آخر اليوم؛ نجلس بالعرائس القماشية التي كانت تحيكها أمي، ونتكفّل بصنع شعرها من الخيوط السميكة السوداء أو البنية أو الصفراء. وبعد الكثير من الثناء على موهبتي في الرسم من أخوتي أتولّى بفخر رسم ملامح العرائس. كبرنا وظلّ أثر الشرفة كما هو بطقوسه المميزة، حين تُكسر حدّة الشمس نخرج إلى الشرفة وأمي نتلمّس نسمات الهواء مع فنجان قهوة وصوت أم كلثوم الذي يتوّج الطقس اليوميّ ليصلّ به إلى الكمال. تشدو الستّ "يا اللي هواك في الفؤاد عايش في ضل الوداد... إنت الخيال والروح... وإنت سمير الأمل" أهيم خلف خيالاتي وتسترجع أمي ذكرياتها التي أسمعها لعشرات المرّات، لم تكن حياتها تحمل الكثير من الأحداث كما أنّها تملك طريقة سرديّة سيئة، لكنّي أضحك وأسأل نفسي: ماذا لو كانت تملك طريقة سرد جدّتي الممتع، والتي كانت تجعل عينيّ تلمعان من جمال التفاصيل. كانت دائماً تتحدث عن الزواج وتنفجر حين أرفض عريساً ما، وأظلّ أقنعها أنّي إن تركتها ستظلّ بمفردها تحاكي ظلّها وتسلّم نفسها للاكتئاب، فتجيب أنّها ستنشغل بأطفالي كما تنشغل بأطفال إخوتي. أسألها: ماذا لو لم أتزوج؟ تحدجني بنظرة غيظ وتقول: هذا أمر خارج خياراتك، نتركك تختارين من تشائين، لكن إيّاك والتفكير بأن تظلّي بمفردك. أهيم خلف المستقبل، ماذا لو تزوّجت وتزوّج أخي الأصغر وظلّت بمفردها؟ أزورها بعد عشر سنين من الآن، زوجي أوصلني إليها وذهب إلى موعد عمل، وفي يدي أدخل عليها بابني وابنتي اللذين يشبهانني إلى حدّ كبير، تتحوّل أمّي لجدّتي: فتهتمّ بإطعامهم، تبتسم سعيدة بتعب التحضير ليوم اجتماع أبنائها وأبنائهم. يصرخ الأطفال ويلعبون تحت أقدامنا في الشرفة. ننهرهم وهي تدافع عنهم، كانت تنهرنا في صغرنا لكنّها الآن ترى الونس في فوضاهم. كانت تشتكي من الصداع حين نتحدّث أنا وأخوتي ونضحك أو نتشاجر، اليوم تضحك وتأخذ مسكّناً دون أن تشتكي. كبرت أمّي وأصبحت جدّتي، أصبحت تمتلك طريقة سرديّة ممتعة، كما أنّها تصالحت مع تجاعيد يدها التي تعرف إلى الآن كيف تنظّف وتطبخ وتمسح الأرضيّة بالكفاءة نفسها.
- أحكي وهي شاردة كعادتها: مختلفة عن أختيها اللتين لم تفكرا كثيراً، وقد تزوّجتا وأنجبتا بعد اتمام دراستيهما الجامعيّتين، لها طموح وترى أنّ الزواج يتعارض معه أو يعطّله. أخاف عليها من الغد، ماذا لو لم تتزوّج وهي مدلّلة لا تحبّ العمل الروتينيّ الذي يؤمّن لها العيش المستقرّ. تخيّلت حياتها بعد عشر سنين وهي وحيدة بلا عون أو سند.
- هزّت أمي رأسها وكأنّها تطرد شبح فكرة أو ذكرى سيّئة. ورثتُ عن أمّي موهبتين جميلتين هما حياكة الثياب، والأذن الموسيقيّة التي تعرف كيف تتذوّق الألحان وتنتقي الكلمات. داعبتها قائلة: الكلّ يحسدني على ذوقي في سماع الأغاني فأقول لهم أنّ أذنيّ اكتسبتا منك الذوق الرفيع في السماع؛ فضحكت. لتكمل الستّ وتقول "يجي الزمان ويروح وإنت حبيب الأجل".