"دفننا اليوم ثروةً حضارية، أشكُ في إمكانيّةِ تكرارها. لم يكتب أحدٌ الشعرَ ولحّن وغنّى الحبّ والمجد كما فعل عاصي"
كانت هذه كلمات الشاعر الراحل مارون كرم التي سمِعَتها جدران كنيسة دير مار الياس - أنطلياس منذ سبعةٍ وثلاثين عاماً في مثل هذا اليوم.
لم يخطئ كرم إلّا في كلمة "دُفن" لأنّ عاصي ما زال حيّاً، كلماتُه وألحانُه ينقلها كلّ يوم إلينا صوتُ فيروز، في صباحاتنا مع قهوتنا وتنقّلاتنا وخلايا أجهزتنا الإلكترونية، هوَ إرثُ الفنان الحقيقيّ لا يموت ولا يُدفن.
عاصي الرحباني كيوسف النجّار في إنجيل المسيحيين، مُحتجباً قليل التصريح والكلام.
ابن "القبضاي" حنًا الرحباني، ولد في أنطلياس عام 1923، وسرعان ما انتقلت العائلة الى ضهور الشوير.
عام 1933 تشبّعَ من عناصر الطبيعة والحياة الريفية، وظهرَ ذلك جليّاً في أعماله بتجسيد شخصيات القرية والقيم المُجتمعيّة المتنوّعة.
عاصي المُحرّر
عام 1937 أصدر مجلة "الحرشاية"، نسبة الى الحرش، موقِّعاً كلّ مقالة باسم مختلف، ليُشعِرَ القارئ أنّ هُنالك أسرة تحرير.
حلم بـِ 10 ليرات
صيف 1938 - مقهى المنيبع، عاصي يجدُ على الأرض ورقةً من فئة العشر ليرات لبنانيّة، سلّمها إلى والده، ليُعلّقها الأخير على حبل أمام المقهى علَّ فاقدها يعود ليسأل عنها. مرّت أيامٌ ولم يسأل عنها أحد، فلم يكن من الفتى عاصي إلّا أن رسم مثيلاً لها وعلّقه مكانها ليذهب بالأصلية الى بيروت ويعود مع آلة كمان قديمة.
العودة إلى أنطلياس
لنتخيّل أنفسنا مع الفتيان عاصي ومنصور في عليّة مقهى الفوّار نسترق السمع إلى أغاني أم كلثوم ومحمّد عبد الوهاب وغيرهم عبر الفونوغراف، وفي النهار نستمع إلى الجدّة تروي قصص القرية والخرافات المتناقلة والروايات الشعبية.
أمّا في البلدية، فعاصي اكتسبُ لقب شرطيّ ليلحق به أخوه منصور بعد سنة، وسيكون لهذه المهنة أيضاً أثرها على الأعمال المسرحية و"السكيتشات، لقد مزج بين شخصية الوالد حنّا المتمرّد والمقاوم، والانضمام الى الدولة والقانون.
يشرح نظرية "التتراكورد"
بسبب فقر العائلة لم يحصل عاصي على أيّ وثيقة أكاديمية، لكن هنا يروي أخوهُ منصور: طلب الأب بولس الأشقر الأنطوني (موسيقار ومدرس) من طلّابه شرح نظرية »"التتراكورد" ولم يلقَ أيّ تجاوب، فجاءه صوت عاصي وهو يسترق السمع على الباب (لم يكن طالباً) قائلاً: أنا أستطيع شرحها"، وكان أن فسّرها للطلاب بطريقة سهلة وانسيابيّة أدهشت الأب الأشقر؛ يؤكّد عاصي في أكثر من مقابلة أنّ الأب بولس الأشقر صاحب فضل كبير في صقل شخصيّته الموسيقيّة.
لقاء اليوبيل الذهبيّ
التقى عاصي نُهاد حداد وقدّم لها "غروب" (كلمات قبلان مكرزل) ثمّ "عتاب" و"إلى راعية"، هذه الأخيرة اختار لها اسم مُلحّن وهميّ (أمين صالح) بعد الانتقادات التي واجهها في تلك الفترة، لأنّه قام بتغيير مسار الأغنية الطويلة، وبعدها كانت أغنية "يابا لالا" التي أثنت عليها الصحافة اللبنانية.
وفي عام 1955 دخلا القفص الذهبيّ وأنجبا زياد، هالي، ليال، ريما وأجمل الملاحم الموسيقية والأغنيات والمسرحيات، لتصدح بعد سنتين من أغنية "لبنان يا أخضر حلو« على أدراج بعلبك موقظةً الحضارة الرومانية النائمة لآلاف السنين، فيما قدّم "المحاكمة" من بطولة فيروز ووديع الصافي عام 1959.
بعد تقديم أوّل عمل تلفزيوني بعنوان "حكاية الإسوارة"، ومن ثمّ"»دفاتر الأيام" و"ليالي السعد" و"القدس في البال" و"أغاني الميلاد والفصح"، الأعمال التي حظيت بجماهرية ليس فقط في بلاد الأرز وإنّما على امتداد العالم العربي، لكنّ عاصي لم يكن ميّالاً الى الشاشة الصغيرة لذلك لم يستمرّ فيه، واتّجه الى المسرح.
أمّا في مضمار الفنّ السابع فقدّم عاصي ثلاثة أفلام: "بياع الخواتم" (مسرحية سابقًا)، "سفر برلك"، "بنت الحارس".
عاصي الفنّان
متشبّعاً من الطبيعة، القرية، التربية الموسيقية ومن الزوجة الملهمة، خلّد عاصي التراث الشعبيّ واشتهر بالمخمّس المردود، مزج بين الشرقي والغربي بعيداً عن النفور أو السطحية.
إلى عاصي...
أنا لا يُمكنني اختصارعاصي في أسطر، وأنا أخاف، نعم، أن أنسى إبداعاً وقّعَهُ.
هل كذب عاصي علينا؟ عندما كتب عن مجد لبنان ولحّنهُ حلماً، هل أوهمنا بالمدن الفاضلة والمَلكة التي تبذل نفسها لأجل شعبها و"المهرّبجي" الصالح؟
طيّب، لولا كتاباتِه وألحانه ماذا كنّا نسمع؟ صحيح، لا يُمكن حصر كلّ موسيقى العالم بشخص، لكن كيف لشخص أن يجمع الموسيقى من أطرافها؟
هُنالك أمور في هذا العالم لا يُمكن تفسيرها، اجتماع فيروز وعاصي مثلاً!
عاصي الذي كان يسرق البُزق من أبيه للحظات، منذ ذلك الحين وهو يسرق لحظات من مسامِعنا كلّ يوم من خلال صوت فيروز!
عاصي، تبقى في لبنان أحلامنا وآمالنا، تبقى صدى لكلّ حضارة شرقيّة، وتبقى أنشودةً لكلّ عاصمة عربيّة.
عاصي، "قصرك لامع، نجمك عالمطالع طالع".
تتزامن ذكرى انتقالِك مع عيد الموسيقى ، كيف لا وأنت نقلتها من "زمان إلى زمان"
فإلى نغمات روحك ألف سلام وحب، وإلى فيروز حبيبتنا كلّ العمر!