ربّما عدت إلى الكتابة بعد وقتٍ طويل لأنّني أيقنت أنّها وسيلتي الوحيدة كي أتواصل معك فيما بعد. فنحن لا نعي قيمة الأشياء إلّا حين نفقدها، وها هو خبر موتك يأتيني بالصاعقة الأكبر، ليبدّل علاقتي مع كلّ ما تركته لي من حياة ويزعزع استقراري ورؤيتي للأمور.
هي رسالةٌ أكتبها وأرسلها إليك، عن طريق جريدة أو رؤيا أو حلم... عادةً ما كنت أطبع المقالات التي أكتبها كي أطلعك عليها حين أزورك. إلّا أنّك لم تحتفظ بأيّ منها، فلفرط ما كانت تعجبك، وزّعتها على من تحبّ، مفتخراً بي.
إذاً، لن أطبع مقالي هذا، لكنّني سأقنع نفسي، بالرغم من عدم تصديقي لأي شيء، أنّه سيصلك. فغالباً ما تكذب الجرائد، وربّما كذبت عليّ حين أقنعتني أنّ بريدها لا يصل إلى السماء.
على أيّ حال، ما من راحلٍ إلّا ورحل فجأة، كقطعة زجاج تقع من يدك فتكسر، ليوخزك فتاتها مدى الحياة، ويتركك تسائل نفسك وتتصارع معها، فتحتار إن كنت قد خلقت للماضي أو المضيّ، لتتخطّى أو تخطو إلى الوراء. ما من راحل إلّا وتركنا له الأبواب مواربة، علّه يأتي...
يقال إنّ أجمل الأشياء هي الأشياء التي تدخل حياتك برهةً لتبدّلها إلى الأبد. إلّا أنّني أيقنت أنّها يمكن أن تكون الأكثر قهراً، في حال كانت تشبه موتك. فالسعادة وقحة حبيبي، ما أعطتنا يوماً من دون مقابل. ما أهدتنا إلّا لتدير وجهها الآخر. وكلّ ما يفرحنا، لا بدّ أن يحزننا. لهذا لم أعد أخشى الموت، ولا الحزن، بل كلّ ما أهابه، ما هو إلّا سعادة.
أتذكّر حين كنت أقضي ليالي الصيف في منزلك، فأستيقظ باكراً على صوت أنفاسك من خلف الباب، يراقبني. وأتذكّر حين كنت تقضي معي ساعة أو ساعتين كلّ ليلة، أمام خزّان المياه الذي حوّلته إلى لوح، لأكون المعلّمة وأنت التلميذ، فتتحمّل براءتي وقدرتي على اللعب المتواصل كطفلة من دون ملل. إلّا أنّني كبرت الآن وأيقنت أنّني لم أكن يوماً في موقع من يعلّم، بل كنت تلميذة الحياة معك وتلميذة الموت بعدك.
كبرت وأيقنت أنّ أكثر لحظات حياتي سعادةً، هي لحظاتي بجانبك. لحظاتنا ونحن نقرأ أو نضحك أو نأكل، أو حتّى نحزن. لحظاتنا ونحن نتحدّث عن الأخبار والأحلام والطبقيّة.
كيف إذاً لا أنتفض على كلّ ما أعطتني إيّاه الحياة وأخذته منّي. أتراني قادرة على مواجهة الفراغ؟
أكتب الآن باكراً، وقهوتي لا تملأ سوى فنجان واحد، لكنّني تركت لك فنجاناً آخر، فاشربه حيث أنت...
لم يتغيّر الكثير منذ غيابك. فالأرض تشتاقك والموسم في حيرة من أمره، كما أنا. أمّا البلاد، فما زالت بلا رئيس، والحكّام صامدون على الأكاذيب نفسها. ما زال الأغنياء هنا، يأكلون كل ما يقع أمامهم، والفقراء على حالهم، يموتون ويثورون، يبكون ويحاولون. ما زالوا يواصلون رحلاتهم في البحث عن بساطةٍ تشبههم، أو عن طمأنينة.
أتساءل لم غادرتني وسط كلّ هذه الفوضى، ولم خدّر غيابك جسدي. فأصبحت أعيش واقعك أكثر ممّا هو واقعي.
بعد غيابك أيقنت أنّني أشبهك، في تصرّفاتي وكبريائي وحبّي للناس والعائلة. بعد غيابك، أصبح طموحي أن أعيش الحياة مثلك، على ذوقك، وأن أموت موت الكبار. تمنّيت لو قبّلتك أكثر، لحظة رأيتك تغادر حياتنا أمامي، في المستشفى. تمنّيت لو بكيت أكثر يوم دفنك. فلفاجعتي لم أتمكّن من أن أذرف دمعةً، ذلك لأنّني لم أصدّق ما حدث، ولم أتقبّل.
دخّنت السجائر كلّها مع جدّتي بعدك، بالرّغم من أنّها لم تعطني واحدة من قبل. ففي بلادٍ تفوّق شعبها في نسبة استهلاكه للدخان، لا بدّ أن تكون واحدة من نصيبي. وما التدخين سوى البحث عن الأمان بعد الفقد؟ ربّما لهذا يدخّن اللبنانيّون، ذلك لأنّهم فقدوا أمانهم وإيمانهم بالوطن. وربّما لهذا أيضاً أصبحت جدّتي تدخّن أضعاف ما كانت تدخّنه قبلك. فالخسارة موجعة، واليتم موتٌ بطيء.
من المؤكّد أنّ من يقرأ رسالتي الآن، يتساءل عن متانة علاقتي بك. إلّأ أنّني أؤكّد له، أنّني أحبّك أكثر من المعقول. ليس لأنّك كنت جداً يفوق الدنيا، بل إنساناً لن يتكرّر أبداً. فكم أحبّتني الحياة لتعطيني إياك جدّاً؟ وكم أكرمتني حين جعلتني حفيدتك الأولى، فأحببتني كما أنا، من دون أن تنتقد شيئاً.
الموت الأوّل كالحبّ الأوّل، يبسط جذوره في شخصنا إلى الأبد. لذا، أعتقد أنّني سأمضي نصف عمري في البحث عن شخص يحبّني مثلك، والنصف الآخر في التحدّث معه عنك...
إنّها المرّة الأولى التي أبكي فيها وأنا أكتب. كما إنّها المرّة الأولى التي أكتب فيها إلى الشخص الوحيد الذي لن يقرأ. إلّا أنّها المرّة الأولى أيضاً التي أرسل فيها بريدي إلى السماء، علّها تأتيني بإجابة.
فاكتب إليّ حبيبي، أو زرني في الحلم. فأنت عظيم، وحبّي إليك، أعظم.
لذا، أحبّك... لذا، أفتقدك... لذا، كلّ ما أكتبه أو أنجزه، أهديه إليك، علّك تراني، علّك تشعر بي، وعلّني أرتاح...