نواجه اليوم واحدة من أخطر الحروب التي تهدّد سلامة وسلم لبنان. فلبنان انتصر سابقاً بجهود شبابه ووعيهم على الحرب الأهلية والعدوان الصهيوني والتهديدات الخارجية. لكن أين سيصب وعي الشباب وجهودهم في ظلّ الأزمة التي توغلت في القطاع التعليميّ؟
إنّ الغاء الشهادة الرسمية لطلاب "البروفيه" قبل أيام من موعد الامتحانات لا يدلّ إلّا على استهتار المسؤولين بأهمية هذه المرحلة. لن أتكلم عن الأسباب فهناك العديد من السيناريوهات وكلّها تصبّ في خانة "عذر أقبح من ذنب".
لكن هذا يعني أننا تسبّبنا في خلق مواطن مستهتر يتنصّل من مسؤولياته، فمن اجتهد وذاكر سينمّ على عمله الجادّ نتيجة لمساواته مع من كان بينه وبين الكتاب قطيعة ليوم الدين. ومن لم يعرف الفرق بين كتاب التاريخ وكتاب الرياضيات خلال عام كامل لن يكتفي بنشوة النجاح دون مذاكرة لمرّة واحدة. لذا سيبحث عن طرق ليجتاز المراحل الثانوية بنفس الطريقة. وفي ظلّ نكبة التعليم الحالية سيكون أعوانه كثر.
ومع شديد الأسف فما واجهه القطاع التعليمي في لبنان أخطر من ذلك بكثير. فمع أزمة الدولار التي اجتاحت البلاد وطمع المؤسسات التي كانت تعنى بالتربية سابقاً وغياب القوانين التي تؤمّن للملم حقوقه وتحميه من تجار اللا تربية بات راتبه بالكاد يكفي قوت يومه فانسحب عمالقة القطاع من تربويين واداريين رافعين راية "لا حبر على الورق دون طعام على المائدة". وهنا بدأت النكبة الأولى فهل يتقبل اللبنانيون مستشفى دون أطبائها؟ أو صيدلية بلا أدويتها؟ أو مختبراً دون علمائه؟
أمّا النكبة الثانية فقد تجلت بالانتداب الأكاديمي وظهور كوادر تعليمية غير مجهزة للتربية والتعليم. فمنهم من لا يحمل شهادات جامعية، وآخرون خرّيجون جدد لم يلتحقوا بدورات تدريبية ولم يطّلعوا على سطر واحد في هذا المجال. والفاجعة الكبرى في ظهور شباب دون العشرين لا يزال يكمل دراسته الجامعية في القطاع التعليمي لمرحلة الروضات بحجّة "شو بدّا ما كلّن كم حرف".
ولا زلت أذكر أني سمعت هذه العبارة من مسؤول مدرسة مرموقة. كم وددت حينها أن يجري له طبيب أسنان عملية قلب مفتوح تحت شعار "ما كلّن دكاترة".
وفي ما يتعلق بالنكبة الثالثة، فقد كانت في التقليص الغريب وغير المدروس للمناهج التربوية. وهذا ما حوّل التعليم عن مساره المعتاد فبات تلقّينا لبعض القواعد والنظريات العلمية واللغوية دون أن ترتبط أوائل الطلبة عن قيمة النظرية الفلانية أو تطبيقاتها على أرض الواقع ستجد نظرات تنمّ عن استغراب واستنكار شديد.
لكنّ المشكلة الحقيقية هي أنّ الآثار السلبية لهذا الاستهتار ليست مؤقتة ولا تظهر بشكل فوريّ. فلن أتعجب بعد خمس سنوات من اليوم بجيل لا يدرك الفرق الجغرافيا والتربية، ولا يعي أهمية الرياضيات وارتباطه بعلوم الكومبيوتر التي لا يستخدم سوى قشورها. فقد افتقر قطاعنا اليوم إلى المدرسين الذين يعملون جاهدين على تطوير قدرة التلميذ على النقد والتحليل. فصنع أشباه الأساتذة دوّامة من تلامذة آليين يكررون ما يحفظون ويسمعون دون أن يسألوا أو يتسألوا وهذا نقيض الأهداف التعليمية.
وفي النهاية لا أعتذر عمّن مسّت هذه المقالة كبريائه. فأنا واحدة من كثر دخلوا هذه المهنة وهم على دراية كاملة بأبعادها ومدى تأثيرها على الفرد والعائلة وبالتالي الوطن. فلا أريد في نهاية المطاف سوى أن أتفاخر بجيل لبنانيّ ذكيّ محلّلٍ لا وجود فيه لسياسة القطيع.