كما العقد الفريد تتناثر حباته الواحدة تلو الأخرى، كذلك يرحل الأحباء والزملاء. واليوم كما الأمس حبة من لؤلؤ غادرت الساحة، تاركة غصة وحسرة وشجناً، حتى كأن الزمن أبى إلا أن ينتقي من العقد أميز حبيباته لينتهي فصل اليوم من فصول الإدارة في مجلس النواب.
أوليس اليوم مقام شهادة، وقول حق ووفاء؟
ربما لن أستطيع إيفاء المقام حقه، لكم المنادي هتف بي لأستيقظ وأقول شهادة في زميلة تكللت صفاتها بأدب رفيع وكفاءة عالية وخلق كريم.
إنها ساميا عفيف هبر.
خمسون سنة ونيف قضتها في خدمة الوظيفة العامة، أعطتها أكثر مما أخذت. أعطتها الصحة والسلامة وهناءة الأسرة ورمق الحياة. كانت مسكونة بهموم الوظيفة وهاجسها. يكلل جبينها شموخ ونبرتها ثقة، وهالة يواكبها تواضع جم تعلوها ابتسامة ترد بها تحية محبيها مقرونة بكرم النفس وعبق الصدق وفضيلة المحافظة على أفاضل الأصدقاء.
في وداعك اليوم تبدين كالأيقونة الثمينة، جوانب مضيئة الالتماعات، من إنسانية وخلقية وحضور متمايز، وهنا مهام على قدر كبير من الدقة والمسؤولية، نفتقدها بغيابك. كنت رسالة خدمة ومهمة أكثر منها مهنة، والرسالة لا تتطلب أجراً ولا يفيها مال، ولا حتى كلمة شكر وامتنان، فالسمعة الطيبة التي تحليتِ بها، والكفاءة العالية ومحبة الزملاء هي كقارورة أريج الزهر تسابق الريح والبرق، وما هما إلا تغريد رجع الصدى لهمس الروح والنفس والوجدان.
واليوم، يوم حظيت بفرصة الكلام عنك، رحلت بالذاكرة إلى محطات وظيفية كنت قد اختزنتها في المخيلة المتواضعة، تصفحتها وهي لا تزال حية واستخلصت منها عصارة كلمات، فكنت يا ساميا الأمينة على مناقبية الحياة والوفية لأمانة العمل مهما صعبت المهام وكبرت المسؤوليات.
ساميا عفيف هبر الجندي المجهول، رحلت بالأمس إلى المقلب الآخر، إلى عالم الحق، هاجرت إلى دنيا الخلد والسماء بعد أن تزودت بخير الزاد، زاد المحبة والإيمان وبذل الذات. كيف لا وقد نثرت طيبتك ومصداقيتك أينما حللتِ، وها هي اليوم تؤتي ثمارها فنتحلق حول ذكراك، نستعيدها محطات مشرقات، نحول ماضي الأيام إلى سنابل تجاور مهابة الأمل والتأمل، نختصر الأحداث والمرويات وجدانيات تنضح بزاد السنين الخوالي دون أن نفتقد حنين الماضي وروعة المصالحة والمصارحة مع الذات ومع المحبين.
ساميا عفيف، تطوي في أصغريها كنزاً من الإنسانية والأصالة ورهافة الحس والذكاء. لا يستشعرها إلا من يكون بقربها، من يغوص في كنه أعماقها يستشرف إشكالية مؤلمة على جرح الوطن على أزمة ناسه وحكامه، على المصير المجهول المعلق على وهم أو سراب، لكن كل ذلك أبقته رهن الخافقين دون ذكر او إفصاح أو إيضاح.
ساميا عفيف، باقة من القيم والصفات وعتها روح سامية رهيفة، جبلت بنداوة الصبيحات وبسمات الأطفال، فكانت صورة صادقة عن روحها المجبولة بشموخ الفرسان، وتربية الأمهات الصالحات، وكلها صفات جعلت منها شخصية وطنية محببة، ميزتُها العطاء الهادئ وشيمتها الصدق والعفوية والعشرة الطيبة وفرادة مستترة لا تخفى عن ذوي الألباب.
وأنت يا ساميا في سماء عليائك اليوم، لا تدعي لنا بطول الأعمار في جحيمنا، ولا بطيب الحياة في مآسينا، بل ليكن دعاؤك للوطن بسلامة الخلاص وعودة الأمن والسلام، ولنا أن نجاورك يوماً في جنة الخلد والرحمن.