عَطفاً على مقالتي في النهار تاريخ 13/7/2023 عن دوامِ العملِ والإنتاجية، جئتُ بعرضِ بعض الأفكار الخاصّة بالعمل والمكمّلة لدراستي السابقة.
قرأت مقالةً على الإنترنت منذ 17 عاماً تُفيدُ بأن المرءَ يجبُ أن يُزاوِلَ عملَه ابتداءً من الساعةِ العاشرة صباحاً، وقد استوقفني هذا الموضوع لعدِّة أسباب.
لم أكن أستطيع القيام بالعمل المتطلّب تفكيراً وتركيزاً كبيرين قبل الساعة العاشرة، وإن قمتُ به كان متضمّناً أخطاءً غريبةً وسفيهةً فعلاً وليس لها أي مبرّر، إذ إنّي أقومُ بذات العمل كلّ يوم إلا أنّ الساعة العاشرة كانت تبدو لي وكأنها صحوة الذهن. لم يكن عَقلي مُسانِداً لي قبل هذا الوقت وكنت أشعرُ بأنّه نائمٌ وكأنّه يعملُ ضِدّي ما ولّد لديّ الشعور بالذنب تجاه هذه الأخطاء غير المبرّرة.
دوامُ الساعة الثامنة صباحاً أصابني بالاكتئاب رغمَ أني كنتُ أعود باكراً إلى المنزل نوعاً ما. ومن الأسباب هو أنّه عليّ النوم باكراً وأنا لا أستطيع النوم قبل الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً، وإن استطعت النوم قبل ذلك الوقت يصيبني القلق عند الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل وأبقى صاحية حتى الساعة الرابعة أو الخامسة فجراً وأعود للنوم ساعة أو ساعتين صباحاً ثمّ أنهض للاستعداد للعمل برغم النُعاس.
فتذكّرت طفولتي إذ كنّا ننامُ باكراً ومع ذلك أقومُ في الصبح باكراً جداً أخلع ملابس النوم ثمّ ألبسها ثانيةً وإخوتي يضحكون عليّ مع أمّي ومن ثمّ أنزل الدرج منتعلاً حذاء البيت، وكم من مرّة نادتني أمّي لأستبدلَه بحذاء المدرسة. كان ذلك فعلاً مُضحكاً رغم أنّي كنت من الأوائل في المدرسة. لم يكن عقلي وجسمي صاحيين وكأنّني تحت تأثير المخدّر وعليّ أن أفعل الشيء نفسه كلّ يوم.
لذلك بعد تلك الخبرة بالعمل الباكر، عدتُ أرفض كلّ الدوامات التي تبدأ عند الساعة الثامنة صباحاً رغماً عنّي فإنّي مدركةٌ تماماً أنّ تلك الدوامات لا تناسب بُنيتي ونفسيّتي وكياني كلّه وإن قبلته لن أستطيعَ الاستمرارَ به طويلاً وإن استمررت به أصابَني اليأسُ والتعبُ والحاجةُ الماسّة إلى العُطل وكنت أمرضُ كثيراً حتى دخول المستشفى.
وبسبب الحالة الاقتصاديّة الرديئة، خضعت للأمر الواقع وقبلت عملاً يتطلّب الحضور عند الساعة الثامنة. وعدت أرى أخطاءً سفيهة تتكرّر ما أصابني بالإحباط إذ هي سفيهةٌ جداً ففضّلت القيام بالعمل البسيط ما قبل الساعة العاشرة وأترك الأمور الصعبة إلى ما بعد الساعة العاشرة.
ولكن حصل أيضاً شيء غريب جدّاً، تكرّرت الأخطاء في فترة ما بعد الظهر إذ أن الجسم بدأ يتعب من قلّة النوم الليلي وعدم الاستفادة من القيلولة كما أنّ تناول الفطور عند الساعة السادسة حتّى الوجبة التالية عند الساعة الواحدة أو الثانية بعد الظهر سوف يؤثّر على الذهن طبعاً. وكنّا عدة موظّفين في مكتب واحد ما لا يشجّع الخصوصيّة والوجبات الخفيفة ما بين الوجبات الرئيسيّة، كما أن ضجّة الموظّفين الآخرين لا تساعدُ على التركيز البتّة، وكلّها عوامل سلبيّة جدّاً.
كما أنّ مركز الشركة صغير جدّاً نسبة لعدد الموظفين رغم أنها شركة ضخمة، فلا نستطيع المشي قليلاً كلّ ربع ساعة والقيام ببعض التمارين الخفيفة لتنشيط الدورة الدمويّة ومساعدة الظهر والركب والأرجل وإراحة العينين من شاشة الحاسوب.
وكنت دائماً ما أشعر بالتعب والحاجة إلى أيّام عطلة للراحة لما لديّ من أشغال بعد دوام العمل الطويل رغم أنّ إنجاز العمل لا يتطلّب أكثر من خمس إلى ستّ ساعات يوميّاً إلّا أنّني أبقى مسجونة بين الحيطان الأربعة ولديّ الكثير من الأعمال التي عليّ إنجازها خارج المكتب كتصليح السيّارة ودفع الضرائب وتنظيف المنزل وشراء المواد الغذائيّة والذهاب إلى الصيدليّة ما عدا ممارسة الرياضة والتلهّي مع الأصدقاء. إن الوضع غير صحيّ بتاتاً وخاصّة في وطن لا يعتمد المعلوماتية في المعاملات المصرفية ودفع الضرائب وسحب وتحويل الأموال بالإنترنت وجميع أنواع الفواتير، كما أن الضرائب يتم دفعها في بعض المؤسّسات الـpara مصرفيّة ناهيكم عن المستشفيات والمعاملات الرسميّة وغير الرسميّة والأهمّ هنا وطنٌ يستخدم ثلاثة أسعار صرف لعملة واحدة وهي الدولار الأميركي: اللولار، النقدي (fresh) وسعر صيرفة...
بحسب الدكتور بول كلي، “Dr. Paul Kelly” Researcher at the Sleep Circadian Neuroscience Institute Oxford University "الموظفون ما تحت سن الخمسين يجب أن يزاولوا العمل عند الساعة العاشرة صباحاً". بحسب هذا الطبيب: "بسن العاشرة، ساعة الاستيقاظ الطبيعية صباحاً هي 6:30، أمّا بسن الـ 18 فهي الساعة التاسعة صباحاً وتتدنى مع العمر لتصل بسن الخمس وخمسين إلى الساعة 6:30 صباحاً" لكنّه تعدّى ذلك حتّى وصف "العمل قبل الساعة العاشرة صباحاً بالتعذيب العاطفي والنفسي والجسدي". كما أن قلّة النوم تتسببّ بعدّة أمراض منها السكري وغيره... كما وأنهم ينصحون عموم العالم ببدء العمل عند الساعة العاشرة إذ ذلك يوافق الجميع، النساء والرجال على حدّ سواء مع نوعيّة وأنماط نوم مختلفة، إذ يوجد أجسام بحاجة للنوم أكثر كما أنّ أنماط النوم مختلفة ما بين جميع الفئات. نعم؟ ماذا؟ وكلّ ذلك الوقت وأنا أعاني من المدرسة، حتى الجامعة وحتى العمل؟!!
والمُلاحَظُ هنا أنّ عدّة دراسات وتحاليل تتغيّر عبر الزمن إلّا أنّ هذه الدراسة التي قرأتها منذ 17 عاماً باتت ثابتة عبر السنين لا بل مُثبّتة علميّاً أيضاً.
نتيجةٌ قاطعة لكلّ ذلك: "إن دوامَ الساعة الثامنة لا يناسبني إطلاقاً".
وعُدت بذاكرتي إلى وظيفتي السابقة التي تركتها منذ عشرة أشهر وكنت حينذاك لا أستفيدُ من عُطَلٍ رسميّة سنويّة، إذ كنت أعمل خمس ساعات في اليوم مع ليونةٍ بدوام العمل فأصل المكتب أحياناً الساعة التاسعة والنصف وأحياناً أخرى الساعة العاشرة صباحاً وأعود إلى المنزل عند الساعة الثانية والنصف أو الثالثة بعد الظهر، ولم أشعر بالتعب بتاتاً رغم أنّي كنت أحبّ قضاء الوقت في الجبل في فصل الصيف. كما أنّني أسترجع بالذاكرة كميّة ونوعيّة العمل المنجز أهم بكثير من العمل الحاليّ رغم أن دوام العمل الحالي هو أطول وأستخلص من ذلك إنتاجيّة أكبر ونوعيّة عملٍ أفضل بدوامِ عملٍ قصير.
وكان الكثير من الأصدقاء والأقارب ينصحونني آنذاك بأن أذهب للعمل عند الساعة الثامنة أو الثامنة والنصف أو حتى التاسعة وأعود عند الساعة الواحدة أو الواحدة والنصف أو الثانية بعد الظهر، لكنني أستيقظ الساعة الثامنة صباحاً كما كنت أمضي بعض الوقت بالتأمّل والصلاة والانفتاح على كلمة الرب. وذلك الوقت مهمّ لي.
وعدت وبحثت ثانية في غوغل وخلصت إلى دوام العمل المقترح في السويد والذي طُبّق منذ سنة 2015 وحتى اليوم:
ستّ ساعات عملٍ مع مرونةٍ وليونةٍ بدوام العمل. “BBC news, ref : 8 Feb.2017”
بعد المحاولة في السويد في سنة 2015 " 2015 “BBC, 2 Nov. شعر الموظفون بنشاط أكبر وزال التعب واستطاعت الأمهات القيام بالأعمال المنزلية من طبخ وتنظيف وتربية الأطفال أو ممارسة الرياضة وحتى تصليح السيّارة... كلّ ذلك يساعد على الاستجمام والراحة في نهاية الأسبوع ولا يرتّب عليهم التعويض عن الأشغال التي لم يتمكنوا من إنجازها في أيّام العمل خلال أيّام الراحة. أمّا الجدير بالذكر هنا أيضاً فإنّ أرباب العمل لم يتكبّدوا خسائر غياب الموظّفين بسبب المرض وذلك يعود إلى صحّة أفضل لدى الجميع.
كما أنّ من فوائد هذا النظام المرن والليّن والقصير هو زيادة الإنتاجية بشكل ملحوظ وتقليص فترة التلهّي.
ولم نكتفِ بهذه الفوائد بل تعدّتها إلى تقليص نسبة البطالة بحيث تمّ إنشاء دوامي أو 3 دوامات عمل في بعض القطاعات فتمّ توظيف عدد أكبر من الموظفين.
وتقلّصت نسبة الغياب عن العمل وذلك عائدٌ لصحة نفسيّة وجسديّة أفضل كما أن العامل النفسيّ يلعب دوره فمن المخجل الغياب كثيراً بدوام عملٍ قصير.
والأهمّ هنا دوام عمل قصير بنفس الراتب الذي كان يتقاضاه الموظّف بدوام عمل طويل ومع نفس التقديمات والتسهيلات والعطل السنويّة.
ألم نكن نعمل ستّ ساعات يوميّاً في سنوات السبعينيات من القرن الماضي؟ هل تقدّمنا وتتطوّرنا أم تخلّفنا؟
إذاً ما الذي ينقصنا لنتمثّل بالغرب الذي طبّق ذلك الدوام بعد دراساتٍ وأبحاثٍ طويلة الأمد؟
وإنّي أعتقد أنّه بحسب المُناخِ النفسيّ السائد في وطننا لبنان والمُعاناةِ الطويلة والخسارات التي تكبّدها هذا الشعب إمّا على الصعيد العائلي أو المادّي، تعوّد على ذلك، وبدأ يشربُ الكأس المرّة بطيب خاطر وبقناعة تمت تغذيتها أيضًا من أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب العمل بأن عذاب الشغل الطويل يعني راتباً أفضل ومعيشةً كريمة ونرى تداعياته اليوم على شعب مرهق وأصحاب عمل يتمتّعون بإنتاجيّة أصغر. فهنيئاً لكما معاً!
فهل المازوشية أصبحت طبقنا اليومي؟ هل العذاب والتعب يساويان راتباً أفضل ومعيشة كريمة؟
عندما أسأل زملائي في العمل هل أنتم مقتنعون بالدوام الحالي؟ أم هل أنتم مُتعبون؟ أسمع الجواب التالي: "الحمد الله في شغل"، "الحمد الله عم نشتغل" واليأس والتعب والقلق في عيونهم.
نحن لم نكن يوماً شعباً خنوعاً، نائماً، خاضعاً للأمر الواقع ولن نكون طالما هناك قلّة باقية ترفع الصوت عالياً من منابر الإقتصاد والحقّ والمساواة والعدالة ونحن أبدى بالعمل من الأجنبيّ الأرخص سعراً.
بالخُلاصة: إنَّ أفضلَ وقتٍ للعمل اليوم هو من العاشرة صباحاً لأنّ ما قبل هذا الوقت يكون الجسم بارداً وغير حاضر للعمل ومواجهة النهار بحماس وحتى الساعة الرابعة بعد الظهر أي ستّ ساعات يوميّاً مع توفير المرونة للذين يفضلون بدء العمل باكراً جداً. المهمّ هنا هو ليس الدوام بل إنجاز العمل اليوميّ وكما ألاحظ أنّ هذا العمل اليوميّ وإن كانت كميّته كبيرة، يمكن إنجازه بدوامَي عمل أو أكثر كلٍّ بستّ ساعاتٍ على أن يكون الأجراء أو الموظّفون لبنانيين من داخل أو خارج المؤسّسة كما تفضيل العاطل عن العمل إن تمّ التوظيف من خارج المؤسّسة. عبر خبرتي الطويلة لا يتمّ إنجاز كامل العمل بدوام طويل بل يتمّ تأجيله أو التلهّي للمحافظة على نظام توفيرالطاقة المتبقيّة لدى العامل أو الموظّف لما بعد دوام العمل.