النهار

لعبة الإمبريالية وتكلفتها الإنسانية
المصدر: النهار - صبري الرابحي- تونس
لعبة الإمبريالية وتكلفتها الإنسانية
يُعرف عن العرب تجذّرهم في التاريخ والأرض
A+   A-
يُعرف عن العرب تجذّرهم في التاريخ والأرض.لا يختلف اثنان حول الأصل والمهد، وظلّ كثيرون في تفاخرهم بالأنساب واللغة الى ما بعد العولمة، وتحوّل العالم الى ما بعد القرية، ليصبح وحدة متّصلة بوسائل التواصل الاجتماعيّ وانصهار مفهوم المجتمع الكلاسيكيّ بموجب التكنولوجيا والهجرة.
لكن ما الذي جعل الأوطان العربية طاردة لأبنائها وغيرهم؟
أين ذهب كل ذلك التجذّر في الأرض؟ أم أنّ الأرض التي لا يُسقى فيه الزرع يحقّ أن تهجرها الأشجار؟
فكرة الهجرة وتأصيلها:
عرفت دول الهجرة مرحلة البناء ما بعد الاستعمار بخطى متثاقلة غير قادرة على مجاراة ثقل الاستعمار الذي أفرغ هذه الدول من مواردها، وحتى من مضمونها الثقافيّ، وجعل من مرحلة البناء مرحلة صعبة لا تخرج عن استتباع المنوال التنمويّ لقوى الاستعمار.
فوجدت أغلب هذه الدول البديل في الاقتراض والتحوّل رمزيّاً إلى مستعمرات مالية أو صناديق إدّخار للدوائر المالية التي اتّخذت من سيادتها، وأحياناً مناطق واسعة من مجالاتها الجغرافية كرهينة أو كضمان بلغة البنوك.
لم تكن الشعوب إذاً إزاء أفق اقتصاديّ رحب قادر على تجذيرها في أرضها، فتحوّلت إلى ذوات تبحث عن الخلاص في المهجر بأيّ طريقة.
تقبّل المهاجرين في دول المهجر:
لم تخرج هذه المسألة أيضاً عن منطق الاستغلال والنفعيّة الاقتصاديّة أمام قوّة عاملة زهيدة الكلفة حوّلت العمل لصالح المستعمر من أرض الاستعمار إلى أرض الاستقرار، والتي تعرف انتعاشة واسعة. وتُعتبر الهجرة محرّكاً بديلاً لتوربينات اقتصاداتها التي قد تتعطّل لأسباب ديموغرافية أو بسبب عزوف مواطنيها عن بعض المهن.
لكن، هل تقبّلت هذه الدول المهاجرين بكلّ أبعادهم الفكرية والثقافية، وسمحت لهم بالانصهار داخل ثقافتها الأمّ التي لم تعتد سوى الهدم لدى الآخر، وبناء نفسها على أنقاضه؟
ما زال بعض المهاجرين يحافظون على جذورهم الثقافية التي من الطبيعي أن تتأثر بالآلة الاقتصادية المدمّرة لكلّ ما هو قيميّ وهوويّ، وصارت معركة الاعتراف بالتنوّع الثقافي والحضاري تطفو على الساحة في كلّ مناسبة يشعر فيها هؤلاء بالضيم رغم حصولهم على جنسيات دول المهجر أحياناً.
لكنّ تصعيد حكومات اليمين المتطرّف ببعض الدول عرّت الوجه القبيح لهذا التيار السياسيّ الذي يتبنّى نظرية الاستبدال العظيم، ولا يتورّع من بناء حملاته الانتخابية الفوز وتغذية الخطاب العنصري تجاه المهاجرين.
تحوّل دول المهاجرين إلى دول هجرة:
أحد تداعيات الركود الاقتصادي ومخلّفات أزمة كوفيد 19 جعلت من بعض دول المهاجرين تتحوّل بدورها إلى دول هجرة، ونقصد هنا دول شمال أفريقيا التي استقرّ فيها مهاجرو دول جنوب الصحراء اللذين كان مسارهم الأساسيّ جنوب أوروبا،.ليجدوا أنفسهم أمام انسداد المنافذ وسخط بعض هذه الشعوب من تواجدهم بسبب سهولة الرفض أمام تقبّل الآخر المختلف، والذي بُنيَ على تشتّت القوميات ومحاولة هذه الشعوب تجزئة انتمائها الجغرافيّ على أساس التوازنات الاقتصادية.
وبالتالي، تحوّلت أراضي المهاجرين إلى أراضٍ غير قابلة لاستيعاب مهاجرين آخرين بواسطة فهم مغلوط لمسألة الهجرة التي أصبحت معضلة إنسانية تهمّ الجميع، وتحرص القوى العظمى على حصرها في مجالات محدودة، والاستفادة منها حسب الطلب.
لذلك وجب التحوّل نحو فهم أعمق لمفهوم الهجرة وحقوق المهاجرين والتيقّظ من لعبة رأس المال في تحويل الهجرة إلى مشكل داخليّ، وتحصين فضائه من التكلفة الإنسانية للهجرة مقابل استعداده اللا مشروط لقبول قوى عاملة مطيعة تستجيب لمقتضيات نهضته الاقتصادية دون ثمن إنسانيّ، وإنّما بخدع بدائية يحوّل بها الصراع من صراع من أجل الهجرة إلى صراع داخل دول الهجرة من أجل أحقيّتهم في التسابق نحو دول المهجر.
كم كانت هذه الشعوب ساذجة تجاه البروبغندا الإمبرياليّة التي أطلقتها ونجحت في ترويجها بين الشعوب المستضعفة التي أحسنت استهلاكها وخلصت إلى نبذ الآخر الذي يحمل الظروف الموضوعية نفسها التي تدفعه إلى الهجرة، فتحوّل الموقف إلى الاستعلاء على حلمهم الذي هو في الأصل حلم كلّ الشعوب، وسط تحايل هذه القوى وانشغالها بتكديس الثروة في مجالات محدودة مغلقة وانتقائية لا قيمة للعامل فيها سوى قيمة مجهوده في خلق هذه الثروة.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium