لم أعتقد يومًا أن الحياة قد تعود إلى سابق عهدها بعد حادثة المرفأ. لم أظنّ أو أشكّ للحظة أن السفن ستفضّل تمزيق أشرعتها قبل أن تدنو منه، كما لم أتمنّ يومًا أن أستذكره في هذه البقعة البعيدة، بينما أبْدِعُ مثل الجميع في هجره عند قارعة القوارب وشرود الشوارع...
بيد أنّني لم أتوقّع أو آمل، كما فعل الجميع، أن تهتزّ الطبقة الحاكمة فوق أرقام الضحايا، كما لم تفاجئني وقاحة لملمتهم للألم ولفّه حول أجساد من ماتوا، مستلقين على رتابة عروشهم الزّائفة.
"نحن شعوب اعتادت على السّجود، حتّى يؤذّن العرش، فيأذن لنا بالنسيان".
يقال إنّ التذكّر شكل من أشكال اللقاء، والنسيان شكل من أشكال الحرّيّة. ولأنّ مَن ينتمى إلى اللقاءات المنسيّة خارج الحرّيّة وعصيُّ على الألم، ففضّلت ترك تلك العاصمة وشأنها، وأن أغادرها وأغدرها كما يفعل كلّ من يخيط جزءًا من خيوطها. فبيروت كركن المقامرات المهجورة، التي لم يعد يراهن عليها أحد، إذ إن كلّ من مرّ بها، لم يتردّد في طعنها والمضيّ إلى عواصم أخرى لن ترحمه. كلّ من ساكنها أحبّ ضعفها، وفتك مطوّلًا بأزقّتها حتى تمزّقَ كلّ ما فيها. كلّ من حدّثها، فُتن بسذاجتها، واستدرجها الى طاولاتٍ شُرّحت فيها بحبر الصفقات وأوراق السياسات.
لكنّ كلّ من عانقها فضّل رميَ حياته تحت عينيها، علّها تفهم أو تتغيّر أو تستفيق...لكنّها لم تفعل.
لم تنصت للمرّات التّي صرخ أليكسي في أذنها راجيًا أن تستفيد من عبودّيته، بل أقفلت كتاب دوستويفسكي، واستعجلت قتله لها من دون أدنى عجرفة، أو نظرة استعلاء.
آثرت أن تبقى على حالها، أي تلك الحفرة التّي يلتقي في داخلها جرذان القصور، ويحتفي بها عابرو السّبيل. تلك المدينة التّي لم يسلم منها شيء، والتي أبت أن تخرج من دور المازوخيّة ذاك الموسوم عند أرجائها. ما الذي وجب فعله كي تردّ، وتشترط على كلّ من وطأها أن يبقى إلى الأبد من دون مجادلتها؟ ما الذي عجزت عن وشوشته في ترابها ليجبل من جديد تمثال ألوهيّتها؟
استسلمت، بل جعلتنا جميعنا نسَلّم بأنّ الحياة ما هي إلّا سرٌ لا يجوز الإفشاءُ به إلّا لمن سئم الحياة ورحل.
فكم مرّة احتجزنا رهائن لمراهنات لم نختر فيها لا النّرد الذي يُرمى على أوردتنا، ولا أيّ روليت ستدور بنا حدّ الدّوار الأخير؟ وكمّ مرّة جرّبنا مسامحة السّجّان أو لَكمِهِ، علّ كلمته تستجيب أو ترأف، أو "تَقرَف" على الأقّل من جرمها؟
لا ريب أنني لم أحصد يومًا الوطنية في حقولي المعجمية، وأنني لم أكتب يومًا عن الوطن إلّا بغية السخرية والتّمرّد والعصيان، إذ إنّ بلادي لم تعرف يومًا ما يعنيه الاعتدال في معاملتي، وتتطرّفت معي أشدّ التّطرّف، حتّى برحنا كلتانا عند الهاوية ننتظر سقوط الآخر...
وما زلت لا أتباهى بجنونها وتقلّباتها الّتي لا تروق إلّا لأروقة المباني الفاخرة، ولا تعترف بأوراق استيائي وجَلَبَتي عن فواجعها. وأجهل كلّ الجهل كيف لها أن تبقى رؤوفة بحقّ سلطة سلّطت الأضواء على نزيفها، ودارت بها بين المتفرّجين كي تشحد ثمن ضماداتها.
فأنا لا تغريني عواصم لا تتنفّس سوى رذاذ ركامها. لا تمثّلني بلادٌ لا تعتاش سوى على حساب فقرائها، كما لا يجتذبني بريق زائل يذبله سخط التّاريخ وفظاعته.
لذا، ولكّل من مرّ بين "كلماتي العابرة"، ووجد أنّني قسوت على بيروت، فليذكر أنّ مَن في القمّة لن يقرأني، وما زال يتعطّر بدخان عنبرها منذ ثلاث سنوات. ولِيُقرَّ أننا شعبٌ هاربٌ لا يجيد الثّورة إلّا بفتات الكلام، كما أنّنا بالرّغم من هشاشتنا فرّطنا بكلّ شيء، وبعنا حيواتنا، لقاء عملة غريبة تغتالنا.