في صدد دراسة أي حقبة زمنية يترتب على ذاك الدارس السير على أسس منطقية مسندة إلى ما يلامس الواقع الخاص بتلك الحقبة، ويترتّب فيها مجموعة المعطيات لتحليل الحقبة وفق مادة تقبل التحليل على أساسها، ومن ثمّ توقّع النتائج الأكثر احتمالًا، ومن الممكن الأخذ بتجارب حقب المجتمعات الأخرى كدليل حي يمكن الأخذ به وجعله أحد مقاييس تلك الدراسة. الحقيقة أن الواقع المعاش في الوقت الحاضر ليس جديداً على بغداد، ولا صدفة في الزمن العتيد لهذا المكان، بل هو عادي ومرّت على هذا المجتمع أحداث مماثلة حيث ضاعت معالم الحياة الطبيعية وطغت عليها معالم مأساوية لا تمتّ للحياة الاعتيادية بشيء، لكن يذكر العلّامة أبن خلدون "رحمه الله" في مقدمته الشهيرة عن دراسة التاريخ وطبيعته حيث وضع هيكل لكلّ حقبة تبدأ وتنتهي فتكون تقريبًا على الشكل التالي:
- ولادة: بداية الحقبة وما تأتي في البدايات كأيّ حقبة فيها محاسنها ومساوئها.
- شباب: الازدهار والانفتاح والتوسع.
- الكهولة: المرض والتعب والانهيار، ثم السقوط.
هذا ما قصده أبن خلدون عن تفسيره لأيّ حقبة من حقب التاريخ التي تمر فيها المجتمعات، وبالتأكيد يتنعم المجتمع في ولادة الحقب وتزدهر وتُملئ بطونهم ويعيشوا حياة الزهو كما حصل في ولادة الدولة العباسية والأموية والفاطمية وغيرها، ويستمر هذا الزهو لفترة شباب تلك الحقبة فيعتاش الناس على شكل الراضين المقتنعين بما لديهم حتى وإن قلّ قليلًا أو أكثر من قليل بشيء، ثم تؤول الأحداث إلى ولادة المشكلات كالتي ولدت في الدولة العباسية في زمن هارون الرشيد والتي أثارها البرامكة واستمرت من بعده إلى أولاد ونشبت الخلافات والتقسيمات إلى أن انهارت وبقي منها الأطلال، وكذلك الدولة العثمانية التي امتدّت الى قرون من الزمن وانهارت، وهذا هو حال التاريخ يبدأ بشيء وينتهي بشيء أخر، فمن هنا نصل إلى نقطة مهمة وهي أمكانية وصف تاريخ أيّ حقبة كعمر البشر حيث يبدأ بطفولة وريعان وفتوة ثمّ شباب وقوّة وحياة متجدّدة ثم كهولة ومرض ثم موت وتنتهي هذه الحقبة لتبدأ حقبة جديدة بشكل جديد ومعطيات جديدة وتأخذ منحى مشابه أو مغاير تمامًا عن سابقتها وتعطي نتائج جديدة وهكذا، وهذا ما ينطبق تمامًا مع ما جاء به العلامة أبن خلدون "رحمه الله".
لكنّ الغريب والعجيب والمثير في الحقبة الحالية التي تعيشها معظم المجتمعات العربية والمجتمع العراقي على وجه الخصوص، فقد بدأت هذه الحقبة كهلة ومريضة واستمرت على المنوال ذاته، فمنذ ولادتها صاحبتها المشاكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتغيرت فيها كلّ المعايير الأخلاقية وتأثرت معها كلّ مقومات الحياة الاعتيادية. المشكلة في هذه الحقبة أنها بدأت من النهاية وأنتظر الجميع أن تسير بشكل عكسي عما قصده أبن خلدون، أي تبدأ من النهاية وتتجه نحو الشباب والزهو والازدهار وديمومة حالة مستقرة مغايرة عما بدأت عليه، إلّا أنّ هذه الحقبة كما تُفهم من معطياتها أنّها باقية على حال الكهولة والمرض لأن مع تقدم عمر هذه الحقبة تزداد مأساويتها وتزداد فيها المشكلات التي تحيل إلى التدهور المستمرّ والذي يوحي بموتها الوشيك، في جميع الأحوال مع كثرة هذه المشكلات تزداد رقعة الجهل في كلّ الأصعدة وهذا طبيعي مع معطيات أرض الواقع، وأيضًا اضمحلال رقعة المعرفة وروادها لكنها في جميع الأحوال تعطي نتائج واضحة وتموت بطريقة غريبة كما ولدت وعاشت بطريقتها الغريبة وبعيدة عن التعافي، وهذا الاستنتاج يأتي من دراسة منطقية لبنية التاريخ ودواعي المرحلة وما يطرأ عليها من هفوات مستمرة والتي أدت بدورها أدت إلى الرجوع الملحوظ والانهيار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي والعلمي وغيره، وأنّ المشكلة الأدهى أن كلّ الحقب التي توالت عليها الهفوات عمل من كان يتزعم زمام الأمور على إعادة النظر في أمورهم والعمل على التعديل والإصلاح إلّا أنّ هذه الحقبة كلما تطرأ هفوة تُترك لتتسع وتُفقد السيطرة عليها وتصبح معضلة حال بقية المعضلات، لذلك قلنا أنّها بعيدة عن التعافي من خلال واقعها وطبيعتها، والله أعلم بخفايا الأمور.