ما زال مستيقظًا بعد ليلٍ متوحّشٍ هزيل، يعدّ عقارب الساعة اللاسعة علّها تسرع وتيرتها المتباطئة، كأنها هي الأخرى متواطئة ضدّه.
تنهّد مطولًا، عاجزًا عن فهم نظام جعله بصراخه، بكتاباته، بأفكاره، أسير شيء لم يختَره. أقلع عن الحياة منذ زمن، وفضّل رميها تحت قدمي من تستحقّها، بدلًا من التفكير المسقم بالسياسة المعوجّة وغير المفهومة. بدلًا من النحيب على كتف اليسار، يمينًا يصعد على ظهر جثث تُيتِّم أطفال فلسطين، تطهّر السترة بأجساد النساء... جثث تقيّأت بفعل ما أسموه عيبًا أو حلال.
لم يجرؤ يومًا على إقرار الانهزام، كغرامشكي الذي يطارد بجملته الأحاديث والنزاعات، أبى إلّا وأن يكون متفائلًا في السياسة، مغرقًا تشاؤمه في بؤَر من الشعر، والبعض من السينما السيئة. لكنّه لم يقم في النهاية سوى بِبَتر ذلك الأمل، وطرد الإله الذي استبدله بإلهة لا تقوى سوى على النهايات.
عاد لقراءة قصاصات الورق والرسائل، فلم يجد سوى ديون، وبعض الاعلانات. وجد كلّ ما تهابه عينه ويغدقه به النظام الرأسمالي الذي يحتقره. أكمل البحث آملًا ايجاد ذلك المغلّف، بقعة النور التي تضيء قاع الهوّة والآتي من أعلى، من ديانته الجديدة، من الهته المتهورة... إلّا أنها ككلّ شيء آخر، خذلته كما لم يخذله أحد، وبدّدت الغيم، كالمراسلات.
سأل نفسه إن كان هناك أيّ جدوى من محاولة الفرار، من النجاة بجلده الذي لم يعد يقوى على أيّ شيء، ولا حتّى مداعبة الدولة لكسب محاسنها. لأنّها ستأتي، لا محالة، في ساعة غير مسبوقة بعد الدوام الرسميّ كي تمرّر يده في جيبه، فتغتصبه، مجدّدًا. ككلّ الأيام السابقة والآتية، فهو، لم يُطِع، تمرّد، وكان لتمرّده نصيب الآثام في جميع الديانات، التي لم تُجِدُ تروضيه ليرضيها.
لذلك قرّر ترويض نفسه في لحظة من فراغ. وذلك من أجل المعنى الذي اندثر في الأماكن وأسقطه الزمن في أشبال من المرارة والمرض. بعد أن كانت الحرّية كلّ ما يقدّسه، نظر حوله، ليجد سحابة من نعال فوق رؤوس الناس، نعال بشكل ذكرى، دولة، زعيم، اله، وفوقه هو، هالة من أصابعٍ تحاول تحريكه من بعيد.
اعتاد منذ زمنٍ بعيد عليها، لذلك يشعره ادّعاؤها من قبل سجناء الديمقراطيّة بالسأم. فحرّيته، ليست كحريّة نيتشه بـ"إتقان الرقص في السلاسل"، بل في اختيارها. اختيار السلاسل التي تَسْجِن، وتصميم الحذاء الذي يُعْلَق، والركوع أمامها، وحدها، لأنّها من يستحقّ التمجيد بفعل ما تمثّله من بنات جنسها اللائي سابقًا كنّ في كعب الهرم. لأنهّا، هدمت الأهرامات وصنعت بها، كعبها المسنون، ومعبدها المطلق.
وإن كان لا بدّ من الاجلال لشيء ما، وتفضيل ما يأتي من مصادر لا يجوز تفسيرها، وان كانت الحياة معبدًا يكسو جدرانه أكثر من بساطٍ، لمَ لا يؤمن بها؟ لمَ لا يطيعها؟ هل ما يطيعه الآخرون أكثر قيمة أو عمقًا من شعرها أو صفعتها؟ أليسوا بأشكالهم المتشابهة والزائفة عبدَةً لما يهابون؟ لمَ لا يكون إذًا بدوره عبدًا لمن يحبّ؟ لمن لا تكذب في اظهار طغيانها ولا تلبس أفكارها اشكالًا من تحضّرهم المنمّق؟ من تهزأ به وبحرّيته المعلّقة على مقابره، حيث لا سبب لموته، ولا لحياته، ولا لنضالته؛ بعدها.
يذكر برهبةٍ كيف حدّثته عن العبودية أوّل مرّة بنبرة لا تشبه سِنَّها أو تجاربها. كيف لم تكفّ منذ ذلك الحين عن الابحار بعيدًا عن نفسها حتّى أضحت مجهولة فيها.
كيف انتمت تلك التي لا تنتمي لشيء الى الاستعباد في وقت ما زال فيه التاريخ يكنس ما خلّفه الطغيان من آفات جنونية، وقت من السهل الحديث فيه عن تجاوزات حقوق الانسان عند بني العالم الثالث ويحرّم في أراضي المُستَعمرين. كيف لها أن تذكر جُرمًا، وترغب به حتّى فوق كلّ الرغبات.
"ما هو إلّا عدلٌ تاريخيّ ّ!" أجابته بصوت من يقرّ بحقيقة الوجود بين نظرتين من نظراتها الباردة والبعيدة. لتضيف، بأنّ لقسوتها نِعَمٌ لا يدركها سوى من ينقاد الى طريقها العاري. ذلك الطريق المتجرّد من الكذب في تشيّؤالانسان وألينته في ما لا يبتغيه، والوعود بأثمان بعد الحياة أو على تلال مالها. هناك حيث تعثّرت بقلّة، قد يجوز الكتابة عنهم في ساعة أقلّ صقيعًا من هذه...
هناك، حيث أطفأ كلّ شيء، وبقي مستيقظًا فقط لكي... يكتب عنها.