النهار

لمَ رمت النسويّة نفسها من شبّاك التّذاكر؟
المصدر: النهار - سارة الدّنف
لمَ رمت النسويّة نفسها من شبّاك التّذاكر؟
أعتقد أنّ محاولاتي الدّؤوبة لإعادة فهم العالم بدأت بالتلاشي
A+   A-
أعتقد أنّ محاولاتي الدّؤوبة لإعادة فهم العالم بدأت بالتلاشي، مع كلّ ملصقٍ زهري اصطدمت به في كلّ مرّة هرولت فيها الى المترو متأخّرة عن العمل. ولربّما في نهاية المطاف ما زلت أنتمي الى عصرٍ لا تمجّد فيه المرأة-الدمية بين معشر النسويات، بل تكتفي ساحات النضال بمن خرج وبصعوبة من العلب البلاستيكية ورماها عرض الحائط. كما عليّ الاعتراف بأنّ الحلم النسويّ الذي يتبلور بعالم خياليِ تستهلّه "فيتيشيّة" مصطنعة لا يستحقّ سوى الوأد بلا عودة، رغم مطريركيّة النوايا وحسن استسخافها.
لا أستطيع الادّعاء بأنني شاهدت الفيلم، خاصّة مع القائمة الطويلة التي تنتظر تنازلي للاطّلاع عليها، ولكنّني ارتكبت حماقة أكبر في قراءة بعض المقالات عن تلك الفاجعة السينمائية، كي أتأكّد بفعلي هذا أن العالم مستمرٌّ في حداده على المعنى، وعلى المنطق، وقبل كلّ شيء، على المرأة. اذ لا يوفّر فرصة إلّا ويقرّر التّشبّث بها لتعتيم قضاياها أو تلميعها بأشكال قد تلبس العمق تارةً وطورًا تتعرّى منه، حسب أهوائها. فمن البديهي، لا بل والمستحبّ مؤخّرًا إضافة تعبير"نسويّ" على كلّ شيءٍ يطيب له الانحراف أو الانجراف، عن أو في الحقيقة. ممّا جعل دمية، لطالما ذاع سيطها تقدّم صورة نمطيّة ومقاييس خياليّة لأجساد النساء، إحدى رموز التحرّر الأكثر إيلامًا ربّما.
لن ألوم ذاكرة الجمهور، فعلى ما يبدو، يكفي مرور بعض السنين كي تتبدّل أحوالها وتعود مطأطئة راسها لما استفزّها سابقًا. فبدلًا من تذكّر الانتصار على ألعابٍ هدّمت صورتها وأصواتها راحت تحتفي بها، وتختفي داخلها، فتراقب مجدّدًا كيف ستدمّر ماضيًا لم تجد فهمه ولا تخطّيه.
فاليوم، من الأجدر تناسي تحليل عدد لا بأس به من علماء النّفس الّذين أظهروا كيف صنعت دمية باربي بشكل مطابقٍ لهوامات ذكورية مثالية، والذي يجعلها قبل أنسنتها في أيّ قصّة أسيرة ما يسمّى بالـ"male gaze" والّذي يصعب إلغاؤها رغم محاولات جعلها أكثر من مجرّد جسد ذي إثارة مفرطة. فهي الدمية التي أخرجت الفتيات من عصر اللعب بالأطفال، أي من دور تقليد الأمهات، لتدخلهنّ في دوّامة اللّعب بجسدٍ لا يمتلكنه، ويصبين اليه قبل الأوان، قبل حتّى معرفة أبعاده والغاية منه. تلك الدمية الّتي تلاحق نساء ناضجات يحلو لنا الاستهزاء بهنّ في برامج التّلفزة عندما تقرّ ألسنتهنّ برغبتهنّ الفاضحة بالتّحول لباربي مهما كلّفت الأثمان. وان سئِلت احداهنّ عن أسباب هوسها ذاك لن تذكر سوى الرّجل العالق عند عنقها والّذي يشدّ وبإحكام أحزمتها النّاسفة، فيفجّر ملامحها بينما تلاعب بين أيديها دميتها الضّاحكة... تلك التّي لا تدعم سوى جيوب "ماتيل" ذات التّاريخ الملطّخ بمخالفة قوانين العمل، تلك الّتي سببت صناعة فلمها بنقصٍ عالميّ باللون الزهري، كما لو كان هذا النّقص الوحيد الّذي يستحقّ احتلال عناوين الصّحف. تلك الّتي غزت حملاتها الاعلانية الطّرق والمباني، الأطعمة والملابس، حتّى أجبرت نفسها على التسلّل في الأحاديث وبين أحرف مقالي الّذي يكتب عنها.
"فماذا لو كان الموت موجودًا" فليخبر أحدكم غريتا أنه موجود، وانها لن تُدخلَ ايّ عمق وجودي بطرح سؤال كهذا بلسان دمية تألَف قطع رأسها وتجريدها من أعضائها في خضمّ اللعب. فكما دمّرت الطفلات دمًى تشبه الرّضّع في بداية الفلم، فمصير باربي لم يكن يومًا أقلّ كارثية، بل تفكيكها بفعل طريقة صنعها أمتع من رمي دمًى صعبة التّحطيم. ولِنقل، باعتماد تحليل من قمامة النسوية الليبرالية، أن هذا مقصود والغاية منه دعم كلّ طفلةٍ ترغب بأن تضحّي جرّاحة أو قاتلة متسلسلة. ففي نهاية الأمر، ستمتلك دائمًا الخيار بين باربي المتحرّرة والقادرة على كلّ شيء طالما كانت بهيّة المظهر ومغرية، أو بين هارلي كوين، الجامحة وعبدة احدهم الجنسية. فكما نعلم جميعًا أنّ هوليوود لا تسعى سوى لتقّديم أمثلة حسنة للمناضلات المعاصرات من خلال معادلة بسيطة، البدء بالانزلاق في لوحة الرَّجُل الإغرائيّة، وتمديد شعر أجسادهنّ في مناقشاته، ورفع تنّوراتهنّ بالقدر اللازم لاظهار جواربهنّ الحريرية. بعد ذلك بإمكانهنّ السماح لأنفسهنّ بالقليل من السادّية، كرَكل وجه ليوناردو ديكابريو -بالكعب العالي أكيد- أو الاكتفاء بـ"باربي-لاند" كحدٍّ أقصى من الطّموحات النسوية في عالم تحكمه النساء بأكثر الأشكال الاعتباطيةّ والمثيرة للسخريّة. والأهم، بل والأكثر أهميّة أن تبقى صورة حرّيّة المرأة ملتصقة بالإغراء الصّلب، بالإغراء الجنسيّ، فلا يمرّ "تمكينٌ" لها إلّا وتلحق به بعض مستحضرات التجميل، ومشاهد "سادومازوخيّة" من العيار المقيت.
والمفارقة الكبرى، أنه ولصنع فيلمٍ يحوّل قصّة خطف امرأة لحكاية حبّ ساحقة، أو انتاج آخر عن استعباد رجل أعمال لفتاة بإرادتها، لم يتمّ اعتماد سياق ساخر أو يسمح للخيال بالشّرود بعيدًا عن البشر الى كائنات من بلاستيك. كأنّما الذكورية تجد دومًا سبيلها لتظهر بحليّها اللامعة حتّى وان كان الغرض احتقارها... كأنما ما من مساحة كافيةً لسينما نسوية وجدّية في آنٍ واحد، فيستوجب التضحية بأحدهما كي يرضي شبّاك التذاكر ويُرضِعَ جيوب مُقتاتيه.
بحقّ كلّ الآلهة والأساطير، كيف تؤخذ النسوية على محمل الجدّ بعد كلّ تلك الأخطاء؟ أين السبيل لإقناعهم أن المرأة قضيّة أوسع تتجاوز شاشات مراهناتهم، وأن عالمهم لا تحكمه شقراوات بمؤخّرات هلاميّة، بل نساءٌ تائهاتٌ في أزقّتهم المعتمة؟ ما هي الطريقة الأمثل لجرّهم الى العالم الحقيقي الذي لم يفقهوا منه شيئًا، علّهم يفزعون من شناعة الصورة ويتهافتون لإلصاقها على الشاشات الكبرى؟
لكنّهم مصرّون على الرّفض... على فرض باربي واقحامها في المشهد الأخير في عيادة نسائية... كأنّ المأساة لم تنتهِ بل بدأت لتوّها...
أيعقل أن تكون التّتمة "مناجاة لمهبلها"؟


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium