أجساد مخترقة بالرصاص تصرخ، وهناك في المدّ البعيد بوابات القيامة؛ تسدّ نفسها عن الفتح؛ كيلا تفضح يقينها العابث بالأجساد، بلغة الأجساد، بصراخ الأجساد التي تنادي عبثًا في ليل القتل الطويل للأكرد، أكراد يموتون على الطرقات، على الدروب التي فتحت فمها كذئاب في ليلة موحشة؛ في تلك البراري التي أخفت خلف قناعها الموت، الموت المترصّد حيواتهم؛ حين يعبرون شطآنًا تبرق على نحو ضبابيّ في مجهول؛ لعلّه يحفل بشروق يعِد الكائن الهارب من لعنة الموت بحياة جديدة؛ لا كتلك الحياة التي عاشها هنا بين ثنايا الغبار والوجع، بين ثنايا القلق الذي أحاط به من كل جانب؛ كسرادق من نار، كانت تشوى فيه وجوههم صباح مساء، وحين قرّروا الانعتاق من ليل تلك السرداق باغتهم الموت في لحظة غفلت فيه الشمس، ونسيت في ذلك اليوم أن ترسل شعاع نورها مرة أخرى، ليجدوا القاتل يترصّدهم من كل حدب وصوب، القاتل العمد، القاتل الذي أهرق الدم، وتركه ينداح كطوفان في مدّ لا نهاية له، لتتلوى تلك الأجساد من الألم، وهي غارقة بالدم، دم الحياة، دم الكرد، دم الكرنفالات التي لا تنتهي، حيث تعلن كلّ سنة استعدادها لتقديم قرابينها كرمى آلهة في أيام معدودات.
مكسورون حتى النخاع، حتى اللحظات الأخيرة، نُمسك بالنعش، ونسير به عراة نخب حرية حمقاء، نخب وداع لجميع مَن كانوا خلفنا، يترصّدون خطانا إلى أرخبيلات الضياع، لتعود بنا الأيام مرة أخرى إلى مسقط الرأس، مرتع الصبا والعشق، فتحفر قبورًا لنا في تلك الأرض التي تركناها هناك غارقة بحنينها لوقع خطانا فوق عشبها الأخضر، فتضع حجارتها فوق وأسفل القبر ليستدلّوا به علينا؛ نحن المنهوبون خزائن صمتهم، خزائن عشقهم للخلاص، للأبدية، لبحار وعدتنا ذات يوم بالفجر، بالحب عبثًا، فشربت من دمنا، وحينما أخفقت ذات مرة في ذلك، استأجرت قاتلًا هناك، لتكون نهايتنا ككلّ مرّة على يده، فتضيف إلى صفحات التاريخ حادثة جديدة، لضحايا قتلوا على يد مريض نفسي، مكلّل بأغلال الجنون.
هكذا ليتلوا التاريخ مجددًا قصصه وحكاياه الكثيرة عنا، نحن الكُرْد، أبناء الموت والنار، أبناء الدم المهراق، أبناء الجَلَدَ والألم، والأضاحي التي ما زالت تقدّم بكلّ كرم لكلّ المرضى النفسيين، هناك ما وراء البحار، لتدقّ أبواق الرحيل ثانية، مذكّرة بالمجزرة، وتصهر تلك الأبواق نافخة في ذاكرة الإرث الموتيّ بقلوب كما الدروع حين تخون صاحبها.
مكسورون نحن كقلب مسكور، كشجرة هزّتها الريح، كزجاج منزل تداعى تحت وطأة العاصفة، لتعبر آخر الأنهار، ولتترك الأرواح مسافرة في تجليّها، مطحونة ببارود يحرق الأكباد، لنطرق أبواب القيامة ومداخلها عبثًا، خوفًا من ألا تستقبلنا الآلهة حتى، فنحن مطاردون إلى ما بعد الأفق الضبابي. لا نهار يحمل رئاتنا، ولا ليل يهدهد أحلامنا القتيلة، لنبقى أسياد الخسارات في كلّ مرة، ولن يدركوا بأننا نخرج من الخنادق أحياء، ونطير في سماء الوجود بأجنحة النسر، ونحيا من جديد، لتغادر الخسارات حياتنا، ويعود الدم يطفح في الأوردة، يمضي رافعًا رأسه كما بذرة الكائن، كما السنابل في موسم الحصاد، ليعزف نشيد الكمال البهيّ، وليرسم في مخيلة الشفق بريشة من سراب لوحته، فتهرول المسافات بعيدًا معه، وتنسى القيامة نفسها، في ليلة تعد بأعياد الميلاد بعد رحيل نصل الموت، وفتح رتاجات الأبواب الألف للمشيئة.