إن أهم الأسباب التي ساهمت بالحفاظ على متانة الاقتصاد الروسي بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا وفرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية عليها، هي إقرار ضوابط على حركة رؤوس الأموال والسحوبات أو مايسمى بالكابيتال كونترول. إقرار هذا القانون في روسيا كان بعد أربعة أيام فقط من اندلاع الأزمة استدركت فيها الحكومة الروسية هروب الرساميل إثر انخفاض الثقة الذي ارتفعت وتيرته مع فرض العقوبات على روسيا.
لبنانيًا، عندما تصاعدت مؤشرات الأزمة في تشرين العام 2019 من ارتفاعات في سعر الصرف وإغلاق المصارف، تزايد الحديث عن ضرورة تطبيق قانون الكابيتال كونترول لمنع خروج الرساميل إثر انخفاض مؤشرات الثقة. في تشرين الثاني من العام 2019 يحذر سليم صفير رئيس جمعية المصارف الرئيس السابق ميشال عون من قانون الكابيتال كونترول بحجة أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد ليبرالي حر كما ينص الدستور ولا يمكن تقييد حركة رأس المال وإلا ستكون العواقب وخيمة على الاقتصاد. لكن الرفض القادم في ذلك الوقت من صفير بما يمثله، كان يصب في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال، إذ تحول منذ ذلك الوقت ما يزيد عن 20 مليار دولار إلى خارج لبنان.
في 27 تشرين الثاني 2019 يقدم النائب ميشال الضاهر قانونًا من مادةٍ واحدة تقضي باعطاء الحق لحاكم مصرف لبنان أن يعطل تحويل الأموال عندما تقتضي الحاجة. إلّا أن هذا القانون سحب من مجلس النواب ولم يوافق عليه.
لكن اللافت أنه بعد فترة من الزمن وخاصة مع تفعيل التفاوض مع صندوق النقد، عمل المجلس على اقتراح للقانون. وكان ذلك في انعكاس لمصلحة متقاطعة ما بين أطراف ثلاثة: المصارف التي تريد قوننة أموال ما قبل الـ 2019 التي طَبّقت عليها تعاميم مصرف لبنان واستعملتها في إطفاء خسائرها، والهيئات الاقتصادية الخائفة من أن يفرض صندوق النقد كابيتال كونترول يقيد فيها فاتورة الاستيراد، ما يعني نقصًا في الأرباح وبالتالي تهديدًا لمصالحهم، أما الطرف الثالث فهي الطبقة السياسية أو الحكومة التي تريد أن تقدم أوراق اعتماد للخارج على أنها ماضية في عمليات الإصلاح وفي التفاوض مع صندوق النقد، فقد يؤمن ذلك إمكانية في استعادة الثقة الخارجية في الكيان اللبناني.
في أيار العام 2020 قدم النواب ابراهيم كنعان، آلان عون وياسين جابر اقتراحاً لقانون الكابيتال كونترول ضمن سياق التفاوض مع صندوق النقد، إلّا أن الصندوق أرسل ملاحظاته على القانون وطلب صياغته مرة أخرى. وفي تشرين العام نفسه عاد اقتراح القانون للبحث في لجنة المال والموازنة بحضور ممثلين عن مصرف لبنان وجمعية المصارف لإعادة النظر باقتراح القانون والملاحظات التي أبداها الصندوق.
في العام 2021 اقترحت لجنة فرعية منبثقة من لجنة المال والموازنة قانونًا آخر، ومرة أخرى يرسل صندوق النقد تقريرًا يرد فيه على الاقتراح. وكان أبرز ما تناوله التقرير أن الاقتراح لا يزال يعاني من نواقص كبيرة كانت قد أصابت الاقتراح السابق المرسل، وعلى الرغم من تعليقات صندوق النقد فإن أغلب التعليقات لم تؤخذ في الاعتبار في الاقتراح الثاني. طلب صندوق النقد اقتراحًا بديلًا مدعومًا بخطةٍ اقتصادية كاملة مع إطارٍ عام لهيكلة القطاع المصرفي، معتبرًا أن القانون المقترح يزيد من الضغوط على العملات الأجنبية الموجودة، و يضيف التقرير أن القانون المقترح يركز على المصارف والتحويلات المصرفية ويضع قيودًا على التحويلات من المصارف بالعملات الأجنبية، فيما لا يأخذ القانون بالاعتبار "ميزان المدفوعات"، أي أن كل وسائل التحاويل الخارجية محررة من القيود، ما يشكل وسائل للتلاعب بالقانون والاحتيال عليه لتحويل الأموال، الأمر الذي يضاعف الفوضى المالية في سوق تحاويل العملات الأجنبية.
أخيرًا، في بداية العام 2023 وبعد 13 جلسة، أقرت اللجان النيابية المشتركة مشروع قانون الكابيتال كونترول وأحالته إلى الهيئة العامة لمجلس النواب للتصويت عليه في وقت غير محدد، إذ إنه لا يمكن عقد جلسة تشريعية في ظل استمرار الفراغ الرئاسي، باعتبار أن مهمة المجلس في هذه الفترة محصورة فقط بانتخاب رئيسٍ للجمهورية.
على الرغم من استنزاف الوقت في لعبة اقرار قانون "الكابيتال كونترول" الذي كان يجب أن يُقر منذ بداية الأزمة كما حدث في روسيا، إلا أن الوصول المتأخر خيرٌ من عدم القدوم. ويبقى إقرار هذا القانون مهمًا في أي حل اقتصادي لمعالجة آثار الأزمة والخروج منها، إذ يلعب القانون دورًا فاعلًا في وقف التقلبات بأسعار الصرف، ووقف استنزاف الدولارات من خلال ضبط الاستيراد وضبط ميزان المدفوعات. إلّا أن التأثير الإيجابي على الاقتصاد اللبناني سيكون مشروطًا برؤية اقتصادية شاملة وعامة للقانون يكون القطاع المصرفي جزءاً منها وليس العكس..